فيقال: قد بين هو بطلان قولهم، وما أختاره هو أيضا باطل، فإن قوله: علمه بذاته كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته، علمه بالأشياء كونها ظاهرة له، وذلك إضافة، وعدم الحجاب أمر سلبي.
يقال له: هذا الذي أبنته من الظهور والإضافة ورفع الحجاب هو عدم محض، أو يتضمن أمرا ثبوتيا، فإن كان عدما محضا لم يكن هناك علم أصلا، فإنا نعلم بصريح العقل أن علم العالم بالمعلومات ليس عدما محضا، بل نعلم أن قولنا: "لا يعلم" هو العدم، فنعلم أن نفي العلم عدم، وإثباته وجود.
[ ص: 89 ]
ومما يبين ذلك أن
ثبوت العلم ونفيه يتناقضان، فإن كان ثبوته عدما، فنفيه ثبوت، فيلزم إذا قيل: لا يعلم أن نكون أثبتنا شيئا. ومعلوم أن هذا قلب للحقائق.
وأما قوله: والذي يدل على أن هذا القدر كاف، هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر، مع عدم الحجاب.
فيقال: إن ادعيت أن الإبصار الذي هو ظهور المبصر للبصر إضافة هي عدم محض، كان القول في هذه المقدمة كالقول في الدعوى.
فإن الإنسان يحس من نفسه عند الرؤية أمرا وجوديا مخالفا لحالة عدم الرؤية، كما يجد من نفسه ذلك في العلم.
فدعوى كون الرؤية أمرا عدميا، مثل دعوى كون العلم أمرا عدميا، ومضمون الأمرين أن الحس والعقل أمر عدمي، وأن مشاهدة المحسوسات والعلم بالمعقولات أمر عدمي.
ومعلوم أن من لم يشهد شيئا ولم يعلمه، فقد عدم الرؤية والعلم، فإن كان بعد الرؤية والعلم لم يحصل له إلا عدم، فلا فرق بين أن يرى ويعلم، وبين أن لا يرى ولا يعلم.
وهذا تسوية بين الأعمى والبصير، والعالم والجاهل.
[ ص: 90 ]
وأصدق الكلام كلام الله الذي قال:
وما يستوي الأعمى والبصير [فاطر: 19] وقال:
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر: 9].
ومعلوم بصرائح المعقول أن البصير أكمل من الأعمى، والعالم أكمل من الجاهل.
ومعلم هؤلاء
أرسطو زعم أنه سبحانه أن لا يعلم ولا يبصر أفضل في حقه من أن يعلم ويبصر. وهؤلاء الذي خالفوا معلمهم واستقبحوا له هذا القول، وأثبتوا له أمرا حال الرؤية والعلم يمتاز به عن حاله إذا لم ير ولم يعلم، فذاك فضل الجاهل الأعمى على العالم المبصر، وهؤلاء يلزمهم التسوية بينهما.