وإن قالوا: إنما قلنا: هو عدم غيبته عن ذاته المجردة قيل: الجواب من وجوه:
أحدها: أن حقيقة العلم: إن كان هو عدم الغيبة لم يختلف ذلك بمعلوم ومعلوم.
فإن
العلم يتعلق بكل معلوم، وكل شيء يمكن أن يكون معلوما، وهو غير غائب عن ذاته، فيجب أن يكون كل شيء معلوما لنفسه، ويكون علمه بنفسه أولى من علم غيره به، لكون عدم غيبته عن نفسه أولى من عدم غيبته عن غيره.
الثاني: أن الشيء كما لا يغيب عن نفسه قد لا يغيب عن غيره، فإن كان العلم عدم الغيبة، فكل ما كان حاضرا لشيء يجب أن يكون عالما به.
الثالث: أن يقال: عدم غيبته عن ذاته المجردة، ما تعنون بقولكم: المجردة؟ إن أردتم ذاته المعقولة أو المعلومة، أو التي يمكن أن تعقل أو تعلم، ونحو ذلك من العبارات الدالة على كونه عالما أو معلوما، أو يمكن كونه عالما أو معلوما - كان معنى الكلام: أنه عدم الغيبة عن ذاته التي هي عالمة أو معلومة أو يمكن أن تكون كذلك.
ومعلوم أن هذا أيضا عدم، فكل ما كانت ذاته عالمة ومعلومة،
[ ص: 93 ] إذا لم تغب ذاته عن ذاته، كان عالما بها.
وأما إن أمكن أحدهما دون الآخر لم يجب ذلك، وإن أمكنا معا، فعدم الغيبة يستلزم العلم، وعدم الغيبة مستلزم للعلم، لا أنه نفس العلم.
وإن قال: أعني بالمجردة أنها ليست جسما ولا مدبرة لجسم.
فيقال: أولا: هذا بناء على ثبوت مجردات بهذا الوصف.
وجمهور العقلاء ينكرون هذا -حتى من يعظم هؤلاء الفلاسفة المشائين:
أرسطو وأتباعه، لما تأملوا كلامهم في العقول والنفوس وجدوه باطلا -إما أن يقولوا: ليس قائما بنفسه إلا الجسم، كما يقوله
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم وغيره.
وإما أن يقولوا: الفرق بين النفس والعقل، ليس إلا فرقا عارضا، كنفس الإنسان، التي هي حال مقارنتها للبدن: نفس، وحال مفارقتها: عقل، كما يقوله أبو البركات وغيره.
وإما أن يقولوا: هذه العقول، التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة، لا تزيد على العقل، الذي هو عرض قائم بعاقل. وإثبات عقل، هو قائم بنفسه ليس جسما، هو باطل. وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر.
والمقصود أن لفظ التجريد فيه إجمال. وإذا فسروه فقد يفسرونه بما يعلم بطلانه، أو بما لا دليل على صحته.
الوجه الرابع: أن يقال: هب أنه ثبت التجريد بالمعنى الذي
[ ص: 94 ] يدعونه، لكن شعور الشيء بنفسه ليس مشروطا بكونه مجردا، ولا مجرد كونه مجردا موجب للعلم بنفسه، فإنه إن قدر أن المجرد ليس بحي، لم يكن شاعرا، فضلا عن أن يعلم أنه عالم.