فصل
إذا تبين ذلك فالآية والعلامة والدلالة على الشيء يجب أن يكون ثبوتها مستلزما لثبوت المدلول الذي هي آية له وعلامة عليه، ولا تفتقر في كونها آية وعلامة ودلالة إلى أن تندرج تحت قضية كلية، سواء كان المدلول عليه قد عرفت عينه، أو لم تعرف عينه، بل عرف على وجه مطلق مجمل.
[ ص: 124 ]
فالأول مثل أن يقال: علامة دار فلان أن على بابها كذا، أو على عتبها كذا، أو علامة فلان أنه كذا وكذا، فإذا رؤيت تلك العلامة عرف ذلك المعين.
والثاني أن يقال: علامة من يكون أميرا أو قاضيا أن تكون هيئته كذا وكذا، فإذا رؤيت تلك الهيئة علم أن هناك أميرا أو قاضيا وإن لم تعلم عينه.
وإذا كان كذلك
فجميع المخلوقات مستلزمة للخالق سبحانه وتعالى بعينه، وكل منها يدل بنفسه على أن له محدثا بنفسه، ولا يحتاج أن يقرن بذلك أن كل محدث فله محدث، كما قدمناه أن العلم بأفراد هذه القضية لا يجب أن يتوقف على كلياتها، بل قد تكون دلالته على المحدث المعين أظهر وأسبق.
ولهذا كان ما يشهده الناس من الحوادث آيات دالة على الفاعل المحدث بنفسها، من غير أن يجب أن يقترن بها قضية كلية: أن كل محدث فله محدث، وهي أيضا دالة على الخالق سبحانه، من حيث يعلم أنه لا يحدثها إلا هو، فإنه كما يستدل على أن المحدثات لا بد لها من محدث قادر، عليم، مريد، حكيم، فالفعل يستلزم القدرة، والإحكام
[ ص: 125 ] يستلزم العلم، والتخصيص يستلزم الإرادة، وحسن العاقبة يستلزم الحكمة.
وكل حادث يدل على ذلك كما يدل عليه الآخر، وكل حادث كما دل على عين الخالق، فكذلك الآخر يدل عليه، فلهذا كانت المخلوقات آيات عليه، وسماها الله آيات، والآيات لا تفتقر في كونها آيات إلى قياس كلي: لا قياس تمثيلي، ولا قياس شمولي، وإن كان القياس شاهدا لها ومؤيدا لمقتضاها، لكن علم القلوب بمقتضى الآيات والعلامات لا يجب أن يقف على هذا القياس، بل يعلم موجبها ومقتضاها، وإن لم يخطر لها أن كل ممكن فإنه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، أو لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح.
ومن هنا يتبين لك أن ما تنازع فيه طائفة من النظار وهو أن علة الافتقار إلى الصانع، هل هو الحدوث أو الإمكان، أو مجموعيهما، لا يحتاج إليه، وذلك أن كل مخلوق فنفسه وذاته مفتقرة إلى الخالق، وهذا الافتقار وصف له لازم.
ومعنى هذا أن حقيقته لا تكون موجودة إلا بخالق يخلقه، فإن شهدت حقيقته موجودة في الخارج علم أنه لا بد لها من فاعل، وإن تصورت في العقل علم أنها لا توجد في الخارج إلا بفاعل، ولو قدر أنها تتصور تصورا مطلقا علم أنها لا توجد إلا بفاعل، فهي في نفسها لا توجد إلا بفاعل، وهذا يعلم بنفس تصورها، وإن لم يشعر القلب
[ ص: 126 ] بكونها حادثة أو ممكنة، وإن كان كل من الإمكان والحدوث دليلا أيضا على هذا الافتقار، لكن الحدوث يستلزم وجودها بعد العدم، وقد علم أنها لا توجد إلا بفاعل، والإمكان يستلزم أنها لا تكون إلا بموجد، وذلك يستلزم إذا وجدت أن تكون بموجد، وهي من حيث هي هي، وإن لم تدرج تحت وصف كلي يستلزم الافتقار إلى الفاعل، أي لا تكون موجودة إلا بفاعل، ولا تدوم وتبقى إلا بالفاعل المبقي المديم لها، فهي مفتقرة إليه في حدوثها وبقائها، سواء قيل إن بقاءها وصف زائد عليها أو لم يقل.
ولهذا يعلم العقل بالضرورة أن هذا الحادث لا يبقى إلا بسبب يبقيه، كما يعلم أنه لم يحدث إلا بسبب يحدثه، ولو بنى الإنسان سقفا ولم يدع شيئا يمسكه، لقال له الناس: هذا لا يدوم ولا يبقى، وكذلك إذا خاط الثوب بخيوط ضعيفة وخاطه خياطة فاسدة، قالوا له هذا لا يبقى البقاء المطلوب، فهم يعلمون بفطرتهم افتقار الأمور المفتقرة إلى ما يبقيها، كما يعلمون افتقارها إلى ما يحدثها وينشئها.
وما يذكر من الأمثال المضروبة والشواهد المبينة لكون
الصنعة تفتقر إلى الصانع في حدوثها وبقائها، إنما هو للتنبيه على ما في الفطرة، كما يمثل بالسفينة في الحكاية المشهورة عن بعض أهل العلم، أنه قال له طائفة
[ ص: 127 ] من الملاحدة: ما الدلالة على وجود الصانع؟ فقال لهم: دعوني، فخاطري مشغول بأمر غريب. قالوا: ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها. فقالوا له: أمجنون أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا أهذا يصدقه عاقل؟ فقال: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة، وهذا الفلك الدوار السيار يجري وتحدث هذه الحوادث بغير محدث، وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام. وهكذا إذا قيل: فهذه السفينة أثبتت نفسها في الساحل بغير موثق أوثقها ولا رابط ربطها، كذبت العقول بذلك.
فهكذا إذ قيل: إن الحوادث تبقى وتدوم بغير مبق يبقيها، ولا ممسك يمسكها. ولهذا نبه سبحانه على هذا وهذا. فالأول: كثير. وأما الثاني: ففي مثل قوله:
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا [سورة فاطر: 41] وقوله
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره [سورة الروم: 25] وقوله:
رفع السماوات بغير عمد ترونها [سورة الرعد: 2].
وهذا الإبقاء يكون بالرزق الذي يمد الله به المخلوقات، كما قال الله تعالى:
[ ص: 128 ] تعالى:
الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون [سورة الروم: 40].