الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذا الذي ذكرناه، من أن نفس الأعيان المحدثة كالإنسان تستلزم وجود الصانع الخالق. وأن علم الإنسان بأنه مصنوع يستلزم العلم بصانعه بذاته من غير احتياج إلى قضية كلية، تقترن بهذا، وهو معنى ما يذكره كثير من الناس، مثل قول الشهرستاني: "أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم، فلست أراها مقالة، ولا عرفت عليها صاحب مقالة، إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية أنهم قالوا: كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة، فاصطكت اتفاقا، فحصل العالم بشكله الذي تراه عليه". [ ص: 129 ]

قال: "ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع، بل هو يعترف بالصانع، لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق، احترازا عن التعليل، فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان، فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها، بصانع عليم قادر حكيم، أفي الله شك [سورة إبراهيم: 10] ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [سورة الزخرف: 87] ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [سورة الزخرف: 9] وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء، فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء دعوا الله مخلصين له الدين [سورة يونس: 22] وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه [سورة الإسراء: 67]".

قال: "ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع، وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشرك: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله [ ص: 130 ] إلا الله، فاعلم أنه لا إله إلا الله ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد، ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا [سورة غافر: 12] وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة [سورة الزمر: 45] وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا [سورة الإسراء: 46]".

قال: "وقد سلك المتكلمون طريقا في إثبات الصانع، وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع، وسلك الأوائل طريقا آخر، وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان".

قلت: وهذا الطريق الثاني لم يسلكه الأوائل، وإنما سلكه ابن سينا ومن وافقه، ولكن الشهرستاني وأمثاله لا يعرفون مذهب أرسطو والأوائل، إذ كان عمدتهم فيما ينقلونه من الفلسفة على كتب ابن سينا.

التالي السابق


الخدمات العلمية