قلت: هو وطائفة معه يظنون أن الضمير في قوله:
حتى يتبين لهم أنه الحق [سورة فصلت: 53] عائد إلى الله تعالى، ويقولون: هذه جمعت طريق من استدل بالخلق على الخالق، ومن استدل بالخالق على المخلوق.
والصواب الذي عليه المفسرون وعليه تدل الآية، أن الضمير عائد إلى القرآن، وأن
الله يري عباده من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن القرآن حق، وذلك يتضمن ثبوت الرسالة، وأن يسلم ما أخبر به الرسول، كما قال تعالى:
قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [سورة فصلت: 52 – 53].
والمقصود هنا التنبيه على أن حاجة المعين إلى العلم لا تتوقف على العلم بحاجة كل من هو مثله، والاستدلال على ذلك بالقياس الشمولي والتمثيلي.
وأيضا فالحاجة التي يقترن مع العلم بها ذوق الحاجة، هي أعظم وقعا في النفس من العلم الذي لا يقترن به ذوق. ولهذا كانت معرفة النفوس بما تحبه وتكرهه، وينفعها ويضرها، هو أرسخ فيها من معرفتها بما لا تحتاج إليه، ولا تكرهه ولا تحبه، ولهذا كان ما يعرف من أحوال الرسل مع أممهم
[ ص: 135 ] بالأخبار المتواترة ورؤية الآثار من حسن عاقبة اتباع الرسل، وسوء عاقبة المكذبين، أنفع من
معرفة صدق الرسول واتباعه، مما يفيد العلم فقط، فإن هذا يفيد العلم مع الترغيب والترهيب، فيفيد كمال القوتين: العلمية والعملية بنفسه، بخلاف ما يفيد العلم، ثم العلم يفيد العمل.
ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري، وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى ما لا تتعلق به حاجتها.
ألا ترى أن الناس يعرفون من أحوال من تتعلق به منافعهم ومضارهم، كولاة أمورهم وممالكيهم، وأصدقائهم وأعدائهم، ما لا يعلمونه من أحوال من لا يرجونه ولا يخافونه، ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه، فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته، إذ كان هو الذي خلقهم، وهو الذي يأتيهم بالمنافع، ويدفع عنهم المضار:
وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [سورة النحل: 53].
وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره، وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه حال اضطرارهم، كما يخاطبهم بذلك
[ ص: 136 ] في كتابه، وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته، فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه، ولا يجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله، بل يكون ما يحبونه سواه، كأنبيائه وصالحي عباده، إنما يحبونهم لأجله، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650020«ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار».
ومعلوم أن السؤال، والحب، والذل، والخوف، والرجاء، والتعظيم، والاعتراف بالحاجة، والافتقار، ونحو ذلك، مشروط بالشعور بالمسئول المحبوب المرجو، المخوف، المعبود، المعظم، الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والافتقار، الذي تواضع كل شيء لعظمته، واستسلم كل شيء لقدرته، وذل كل شيء لعزته.
فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها، بل هي ضرورية فيها، كان شرطها ولازمها، وهو الاعتراف بالصانع والإقرار به، أولى أن يكون ضروريا في النفوس.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651296«كل مولود يولد على الفطرة»، وقوله فيما يروي عن ربه:
nindex.php?page=hadith&LINKID=885964«خلقت عبادي حنفاء» [ ص: 137 ] ونحو ذلك، لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط، بل إقرارا يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له، وهذا هو الحنيفية.
وأصل الإيمان قول القلب وعمله، أي: علمه بالخالق وعبوديته للخالق، والقلب مفطور على هذا وهذا. وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة بما عرض له من المرض، إما بجهله، وإما بظلمه، فجحد بآيات الله واستيقنتها نفسه ظلما وعلوا، لم يمتنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة.
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع طائفة من قول من ذكر أن المعرفة ضرورية، والعلم الذي يقترن به حب المعلوم قد يسمى معرفة، كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمعروف ما تحبه القلوب مع العلم، والمنكر ما تكرهه وتنفر عنه عند العلم به. فلهذا قد يسمى من كان فيه -مع علمه بالله- حب لله وإنابة إليه عارفا، بخلاف العالم الخالي عن حب القلب وتألهه، فإنهم لا يسمونه عارفا.
ومن المعلوم أن وجود حب الله وخشيته والرغبة إليه وتألهه في القلب، فرع وجود الإقرار به، وهذا الثاني مستلزم للأول. فإذا كان هذا يكون ضروريا في القلب، فوجود الإقرار السابق عليه اللازم له، أولى أن يكون ضروريا، فإن ثبوت الملزوم لا يكون إلا مع ثبوت اللازم.