[ ص: 150 ] الجواب الثاني: أن يقال: الموجود الذي ليس وجوده من نفسه، يمتنع أن يكون وجود غيره منه، فإن وجود نفسه بنفسه، واستغناء نفسه بنفسه، وقيام نفسه بنفسه، أولى من وجود غيره بوجوده، واستغناء غيره به، وقيام غيره به، فإذا قدر ممكنات ليس فيها ما وجوده بنفسه، امتنع أن يكون فيها ما وجود غيره به بطريقة الأولى، فلا يجوز أن يكون كل ممكن لا يوجد بنفسه، وهو مع هذا فاعل لغيره إلى غير نهاية.
وهذا مما لا يقبل النزاع بين العقلاء الذين يفهمونه. وسواء قيل: إن
المؤثر في مجموع الممكنات هو قدرة الله تعالى بدون أسباب، أو قيل: أنها مؤثرة فيها بالأسباب التي خلقها، أو قيل: إن بعضها مؤثر في بعض بالإيجاب أو الإبداع أو التوليد أو الفعل أو غير ذلك مما قيل، فإن كل من قال قولا من هذه الأقوال لا بد أن يجعل للمؤثر وجودا من موجود بنفسه، لا يمكن أحد أن يقول: كل منها مؤثر، وليس له من نفسه إلا العدم، وليس هناك مؤثر له من نفسه وجود، فإنه يعلم بصريح العقل أنه إذا قدر أن كل تلك الأمور ليس لشيء منها وجود من نفسه ولا بنفسه، لم يكن له تأثير من نفسه ولا بنفسه، فإن ما لا يكون موجودا بنفسه ومن نفسه فأولى به أن لا يكون مؤثرا في وجود غيره بنفسه ومن نفسه، فإذا لم يكن هناك ما هو موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه، بل كل
[ ص: 151 ] منها غير موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه، كان كل منها معدوما بنفسه، معدوم التأثير بنفسه، فنكون قد قدرنا أمورا متسلسلة كل منها لا وجود له بنفسه، ولا تأثير له بنفسه، وليس هناك مغاير لها يكون موجودا مؤثرا فيها، فليس هناك لا وجود ولا تأثير قطعا.
وإذا قال القائل: كل من هذه الأمور التي لا توجد بنفسها يبدع الآخر الذي لا يوجد بنفسه، كان صريح العقل يقول له: فما لا يكون موجودا بنفسه لا يكون مؤثرا بنفسه، فكيف تجعله مؤثرا في غيره ولا حقيقة له. فإن قال: بل حقيقته توجد بذلك الغير. قيل له: ليس هناك غير يتحقق به، فإن الغير الذي قدرته هو أيضا لا وجود له، ولا تأثير أصلا إلا بما تقدره من غير آخر، ليس له وجود ولا تأثير.
ونكتة هذا الجواب أن تقدير العقل لما لا يوجد بنفسه بعد، ولا يحقق له وجود بغيره كونه مؤثرا مبدعا لغيره من أعظم الأمور بطلانا وفسادا، فإن إبداعه للغير لا يكون إلا بعد وجوده، وهو مع
[ ص: 152 ] كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم ليس موجود، فكل ما قدر إنما هي معدومات.