قلت: ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل، كيف يتكلمون في غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين، ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردودا، والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولا بكلام فيه تلبيس وتدليس، فإنه ذكر ما يلزم مثبتة الصفات وما يلزم نفاتها. فقال:
يلزم النفاة أن تكون الصفات ترجع إلى ذات واحدة، فيكون مفهوم العلم والقدرة والإرادة مفهوما واحدا، وأن يكون العلم والعالم والقدرة والقادر والإرادة والمريد واحدا، وقد قال: «إن هذا عسير».
قلت: بل الواجب أن يقال: إن هذا مما يعلم فساده بضرورة العقل، فمن جعل العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، وجعل الإرادة هي المريد، والعلم هو العالم، والقدرة هي القادر -كان مخالفته للعلوم الضرورية وسفسطته أعظم من سفسطة كثير من
السوفسطائية، وقود هذه المقالة أن يمكن أن يكون المتكلم هو الكلام، والمتحرك هو الحركة، والمصلي هو الصلاة، والصائم هو الصوم، وأمثال ذلك، وإن فرق بين الصفات اللازمة وغيرها، فلا فرق في الحقيقة، بل هذا تحكم، ويلزمه أن يكون الإنسان الناطق نفس النطق، والفرس الصاهل نفس الصهيل، والحمار الناهق نفس النهيق، والجسم الحساس المتحرك بالإرادة نفس الإحساس والحركة الإرادية، ويلزمه أيضا أن
[ ص: 428 ] يجعل نفس الحس نفس الحركة، ونفس الحيوانية نفس الناطقية، ونفس الصاهلية نفس الناهقية.
وما أحق هؤلاء بدخولهم في قول الله تعالى:
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم [سورة الأنعام: 39].
وبقوله تعالى
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [سورة الأعراف: 179].
وبقوله تعالى
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [سورة الملك: 10].
وقول
nindex.php?page=showalam&ids=13170ابن رشد: "كون العالم والعلم شيئا واحدا ليس ممتنعا، بل واجب أن ينتهي الأمر في أمثال هذه الأشياء إلى أن يتحد المفهوم فيها".
فيقال له: هذا من أعظم المكابرة والسفسطة والبهتان، وقوله: «إن العالم إذا كان عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالما» إلى آخر كلامه، كلام في غاية الفساد، كما أنه إذا قيل: إذا كان الضارب ضاربا بضرب فالضرب أولى أن يكون ضاربا، والقائم إذا
[ ص: 429 ] كان قائما بقيام، فالقيام أولى أن يكون قائما، والناطق إذا كان ناطقا بنطق فالنطق أولى أن يكون ناطقا، والقاتل إذا كان قاتلا بقتل فالقتل أولى أن يكون قاتلا، والماشي إذا كان ماشيا بمشي فالمشي أولى أن يكون ماشيا، والخالق إذا كان خالقا بخلق فالخلق أولى أن يكون خالقا، والرازق إذا كان رازقا برزق فالرزق أولى أن يكون رازقا، والمحيي المميت إذا كان محييا مميتا بإحياء وإماتة فالإحياء والإماتة أولى أن يكون محييا مميتا.
وبالجملة فهذا يلزم نظيره في عامة أسماء الله الحسنى، وفي أسماء نبيه صلى الله عليه وسلم وأسماء سائر الموجودات المشتقة، يلزم أن يكون المصدر الذي اشتق منه الاسم أحق بالاسم من الفاعل، ويكون مسمى المصدر الذي هو الحدث أحق بأسماء الفاعلين والصفات المشبهة بها من نفس الفاعل الموصوف.
وتصور هذا الكلام كاف في معرفة فساده، وإنما دخلت الشبهة على من قاله، لأن قوله: «إذا كان العالم عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالما» كلام اشتبهت فيه باء الاستعانة بباء المصاحبة، فظن أنه إذا قيل: هذا عالم بعلم، أن العلم هو الذي أفاده العلم، والعلم هو الذي أعطاه العلم، كأنه معلمه، فكأنه قال: إذا كان المتعلم عالما فمعلمه أولى أن يكون عالما، وليس الأمر كذلك، بل قولنا: هذا عالم بعلم، أي أنه موصوف بالعلم، أي ليس مجردا عن العلم ولا معرى عنه، بل هو متصف به، والعلم نفسه لا يعطيه العلم، بل نفس العلم هو
[ ص: 430 ] العلم، وإن كان العلم قديما من لوازم ذاته فلم يستفده من أحد، وإن كان محدثا فقد استفاده من غيره ولم يستفد العلم من العلم، لكن هل له حال -وهو كونه عالما- معللة بالعلم، أم كونه عالما نفس العلم؟ هذا فيه نزاع بين مثبتة الحال ونفاتها، ومن أثبتها لم يقل: إنها صفة موجودة.