قال : "وقد احتج أهل الحق على
امتناع قيام الحوادث به بحجج ضعيفة :
الأولى : قالوا : لو كان الباري تعالى قابلا لحلول الحوادث بذاته لما خلا عنها أو عن أضدادها ، وضد الحادث حادث ، وما لا يخلو عن الحوادث فيجب أن يكون حادثا ، والرب تعالى ليس بحادث" .
قال : "وهذه الحجة مبنية على خمس مقدمات : الأولى : أن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد . والثانية : أن ضد الصفة الحادثة لا بد وأن يكون حادثا .
والثالثة : أن ما قبل حادثا فلا يخلو عنه وعن ضده . والرابعة : أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث . والخامسة : أن الحدوث
[ ص: 28 ] على الله تعالى محال . أما أن الرب تعالى ليس بحادث فقد سبق تقريره" .
قلت : هذا معلوم باتفاق أهل الملل وسائر العقلاء ممن أثبت الصانع ، ومعلوم بالأدلة اليقينية ، بل معلوم بالضرورة . وقد ذكر أنه قرر ذلك ، وهو لم يقرره ، فإنه إنما قرره بناء على إثبات واجب الوجود ، وبنى ذلك على نفي التسلسل في العلل وإبطال حوادث لا أول لها ، وحجته على ذلك ضعيفة .
وقد أورد في كتابه المسمى "بدقائق الحقائق" على إبطال تسلسل العلل سؤالا زعم أنه لا يعرف عنه جوابا ، فبطل بقوله ما ذكره من تقريره . لكن هذا بحمد الله أجل من أن يحتاج إلى مثل هذا التقرير .
وقال : "وأما أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، فسيأتي تقريره في حدوث الجواهر" .
قلت : لم يقرر ذلك إلا بدليل حدوث الأعراض . وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها ، وإنما قرر ذلك بإبطال التسلسل في الآثار ، وقرر ذلك بأن الحادث يمتنع أن يكون أزليا .
وقد تقدم فساد ذلك بأن لفظ "الحادث" يراد به النوع الدائم ، ويراد به الحادث المعين ، والمعلوم امتناعه إنما هو النوع الثاني . والنزاع إنما هو في الأول .
[ ص: 29 ] وأيضا فإن الذي قرر به امتناع تسلسل العلل في "دقائق الحقائق" أورد عليه سؤالا ، واعترف بأنه لا جواب له عنه . وإذا كان تقريره لنفي تسلسل العلل قد بين أنه ورد عليه سؤال لا يعرف جوابه ، فكيف بتقرير نفي تسلسل الحوادث !
ومن المعلوم أن العقلاء اتفقوا على نفي تسلسل العلل ، وتنازعوا في نفي تسلسل الحوادث ، فإن كان لم يقم على نفي ذاك عنده دليل عقلي فهذا أولى .
والسؤال الذي أورده يرد على النوعين ، وقد [ذكرناه] وذكرنا الجواب عنه فيما تقدم . ومضمونه أنه : لم لا يجوز أن يكون مجموع المعلولات التي لا تتناهى ، وإن كان ممكنا في نفسه ، لكنه واجب بوجوب آحاده المتعاقبة ، وكل واحد واجب بما قبله . وهذا ، وإن كان باطلا ، لكن المقصود التنبيه على أن من خالف الكتاب والسنة ، وقال : إنه ينصر بالمعقول أصول الدين ، يخل بمثل هذا الواجب في أعظم أصول الدين ، مع أنه يقرر ما لا يحتاج إليه في الدين ، أو ما يعارض ما يثبت أنه من الدين .
وكذلك من قال مثل هذا وأمثاله أنه يتكلم بالعقليات يظهر منه في أعظم المعقولات التقصير والتوقف والحيرة فيها ، ويحقق من المعقولات ما تقل الحاجة إليه ، أو ما يكون وسيلة إلى غيره ، مع أن المقصود بالوسيلة لم يحققه .
[ ص: 30 ] وقد احتج على إبطال حوادث لا أول لها ، بعد أن أبطل حجج موافقيه ، بأن ذلك يستلزم كون الحادث أزليا ، وهذا الوجه ضعيف .
فإن المنازع يقول : أشخاص الحوادث ليست أزلية ، وإنما الأزلي النوع . فالموصوف بأنه أزلي ليس هو الموصوف بأنه حادث ، ثم يقال : إذا لم تقدر أن تقيم حجة على امتناع تسلسل المعلولات وإثبات الصانع عندك موقوف على هذا ، فأي شيء ينفعك : نفي حلول الحوادث عما لم تقم حجة على إثباته فضلا عن قدمه ؟