الوجه الثالث: أن يقال : ما ذكرته من الحجة معارض بتجويزك على الله إحداث الحوادث بعد أن لم تكن ، وهو كونه فاعلا ، فالفاعلية : إما أن تكون صفة كمال ، وإما أن لا تكون صفة كمال . فإن كانت كمالا ، كان قد فاته الكمال قبل الفعل، وإن لم تكن كمالا لزم اتصافه بغير صفات الكمال، وهذا محال لهذين الوجهين .
وإذا قلت : إن الفعل نسبة وإضافة .
قيل لك : وإضافة هذا الحادث إليه نسبة وإضافة ولا فرق بينهما إلا كون أحدهما متصلا والآخر منفصلا .
[ ص: 89 ]
ومعلوم أن الإجماع على تنزيه الله تعالى عن صفات النقص ، متناول لتنزيهه عن كل نقص من صفاته الفعلية وغير الفعلية ، وأنت وجميع الطوائف تقسمون الصفات إلى صفات ذاتية وصفات فعلية ، ومتفقون على تنزيهه عن النقص في هذا وفي هذا .
وأيضا فهذا منقوض بسائر ما جوزوه من تجدد الإضافات والسلوب ، فإن الرب منزه عن الاتصاف بالنقائص في الثبوت والسلب والإضافة، فما كان جوابهم في المتجددات كان جوابا لمنازعيهم في المحدثات .
وهم يجيبون في المتجددات بأنه لا يمكن ثبوتها في الأزل .
فيقال لهم : وكذلك الحوادث المتعاقبة لا يمكن ثبوتها في الأزل ، وهو وأمثاله يجيبون
الدهرية بمثل ذلك في مسألة حدوث العالم .
فإن من حججهم شبهة
برقلس . قالوا: إن الجود صفة كمال ، وعدمه صفة نقص، فلو كان العالم قديما: لكان الرب تعالى في الأزل جوادا، ولو كان حادثا، لما كان الرب تعالى في الأزل جوادا لعدم صدور العالم عنه ، وهو محال .
ثم قال في الجواب: "وأما الشبهة الرابعة فحاصل لفظ
[ ص: 90 ] الجود فيها يرجع إلى صفة فعلية، وهو
كون الرب تعالى موجدا وفاعلا، لا لغرض يعود إليه من جلب نفع أو دفع ضر ، وعلى هذا فلا نسلم أن صفات الأفعال من كمالاته تعالى ، وليس ذلك من الضروريات، فلا بد له من دليل، كيف وأنه لو كان ذلك من الكمالات لقد كان كمال واجب الوجود متوقفا على وجود معلوله عنه ، ومحال أن يستفيد الأشرف كماله من معلوله ، كما قرروه في كونه موجودا بالإرادة، وإن سلمنا أنه كمال لكن إنما يكون عدمه في الأزل نقصا، أن لو كان وجود العالم في الأزل ممكنا، وهو غير مسلم ، وهو على نحو قولهم في نفي النقص عنه بعدم إيجاده للكائنات الفاسدات كالصور الجوهرية العنصرية ، والأنفس الإنسانية ، لتعذر وجودها أزلا من غير توسط، ولا يلزم من كون العالم غير ممكن الوجود أزلا أن لا يكون ممكن الحدوث لما حققناه" .
فهذا الجواب الذي أجاب به في هذا الموضع ، إذا أجابته به
الكرامية كان جوابهم له أحسن من جوابه لأولئك ، وأدنى أحواله
[ ص: 91 ] أن يكون مثله ، فإنه قال : "صفة الإحداث والفعل مطلقا ليست بصفة كمال، مع كونه اتصف بها بعد أن لم يكن" .
فيقال له: لا فرق بينهما إلا من جهة أن أحدهما بنفسه ، [والآخر] مباين عنه ، ومن المعلوم أن ما يتصرف بنفسه أكمل ممن لا يتصرف بنفسه .