بالقدم ، قال : "الوجه العاشر:
أنه لو كان العالم محدثا فمحدثه إما أن يكون مساويا له من كل وجه ، أو مخالفا له من كل وجه ، فإن كان الأول فهو حادث ، والكلام فيه كالكلام في الأول ، ويلزم التسلسل الممتنع ، وإن كان الثاني فالمحدث ليس بموجود ، وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه ، وهو خلاف الفرض ، وإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون موجبا للموجود كما سبق ، وإن كان الثالث فمن جهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا ، والكلام فيه كالأول ، وهو تسلسل محال . وهذه المحاولات إنما لزمت من القول بحدوث العالم، فلا حدوث" .
ثم قال في الجواب : "وأما الشبهة العاشرة فالمختار من أقسامها
[ ص: 168 ] إنما هو القسم الأخير ، ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحوادث من وجه أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا ، بل لا مانع من الاختلافات بينهما في صفة القدم والحدوث، وإن تماثلا بأمر آخر ، وهذا كما أن السواد والبياض مختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه ، وإلا لما اشتركا في العرضية واللونية والحدوث ، واستحالة تماثلهما من كل وجه وإلا كان السواد بياضا، ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة البياضية" .
وإن عنى به أنه لو كان جوهرا مماثلا في مسمى الجوهرية ، فهذا مثل أن يقال : لو كان حيا مماثلا للأحياء في مسمى الحيية ، أو عالما مماثلا للعلماء في مسمى العالمية ، أو قادرا مماثلا للقادرين في مسمى القادرية ، أو موجودا مماثلا للموجودات في مسمى الموجودية ، وحينئذ فموافقته في ذلك لا تستلزم أن يكون مماثلا لها فيما يجب ويجوز ويمتنع، إلا أن تكون الجواهر كلها كذلك .
ومعلوم أن من يقول: هو جوهر ، لا يقول إن الجواهر متماثلة ، بل يقول: إنه مخالف لغيره ، بل جمهور العقلاء يقولون: إن
[ ص: 169 ] الجواهر مختلفة في الحقائق. وحينئذ فتبقى هذه الوجوه موقوفة على القول بتماثل الجواهر ، والمنازع يمنع ذلك ، بل ربما قال: العلم باختلافها ضروري .
ودعوى تماثلها مخالف للحس والعلم الضروري ، فإنا نعلم أن حقيقة الماء مخالفة لحقيقة النار ، وأن حقيقة الذهب مخالفة لحقيقة الخبز ، وأن حقيقة الدم مخالفة لحقيقة التراب ، وأمثال ذلك، وأن اشتراكهما في كونهما جوهرين هو اشتراكهما في كونهما قائمين بأنفسهما أو متحيزين أو قابلين للصفات، وهذا اشتراك في بعض صفاتهما، لا في الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات .
الثالث : أنه إن أراد بقوله : إنه جوهر كالجواهر: أنه مماثل لكل جوهر في حقيقته، ويجوز عليه ما يجوز على كل جوهر ، فهذا لا يقوله عاقل . وإنما أراد المنازع أنه: إما قائم بنفسه، وإما متحيز ، وإما نحو ذلك من المعاني التي يقول إن الاشتراك فيه كالاشتراك في كون كل منهما حيا عالما قائما بنفسه ونحو ذلك ، فيبقى النزاع في أن مسمى الجوهر عند هؤلاء يقتضي تماثل أفراده .
وهؤلاء يقولون : لا ، بل هو اسم لما تختلف أفراده ، وفي أن هؤلاء يقولون : الاشتراك في التحيز الاصطلاحي يقتضي التماثل في الحقيقة ، وهؤلاء ينفون ذلك .
[ ص: 170 ]
ومعلوم عند التحقيق أن قول النفاة للتماثل هو الحق ، كما قد بسط في موضعه .
وهؤلاء يقولون : قولنا: جوهر ، كقولكم : ذات قائمة بنفسها ونحو ذلك .
فتبين أن ما ذكره من الدليل على نفي الجوهر هو دليل على نفي ما اتفقت الطوائف على نفيه ، فإن أحدا من العقلاء لا يقول: إنه جوهر، بمعنى مماثلته لكل قائم بنفسه فيما يجب ويجوز ويمتنع ، وما قاله المثبتة ، منه ما سلم لهم معناه ، ومنه ما لا حجة له على نفيه إلا حجته على نفي الجسم ، وحينئذ فيكون الكلام في نفي الجوهر مفرعا على الكلام في نفي الجسم .
وقوله : "إن الوجوه الأربعة التي نفي بها الجوهر ينفى [بها] الجسم" لا يستقيم، فإنه إنما نفي بها الجوهر بمعنى أنه مماثل لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع ، وهذا مما يسلمه له من يقول إنه جوهر وجسم، فإقامة الدليل عليه نصب للدليل في غير محل النزاع، لم ينف بها الجوهر بالمعنى الذي يثبته من قاله .