وكذلك يقال في الوجه الثالث: فإن إثبات النهاية من أحد الطرفين دون الآخر أبعد عن الإحالة من إثبات موجود قائم لا يمكن أن يقال فيه: هو متناه، ولا أن يقال: غير متناه .
وكذلك إثبات موجود لا نهاية له من الطرفين أقرب إلى المعقول من كونه لا يقبل إثبات النهاية ولا نفيها .
قوله : "فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص، ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء، فيكون الرب معلولا لغيره" .
يقال: ما من أحد من النفاة إلا وقد قال نظير هذا،
فالكلابية والأشعرية يقولون :
الذات اقتضت صفات معدودة دون غيرها من الصفات ، فإنهم وإن تنازعوا في كون صفاته كلها معلومة للبشر ، فإنهم لم يتنازعوا في إثبات صفات لا تتناهى ، بل لا بد أن تكون صفاته متناهية ، فجعلوا الذات مقتضية لعدد معين دون غيره من الأعداد ، ولصفات معينة دون غيرها من الصفات ، بل واقتضت الأمر بشيء دون غيره من المأمورات ، وبإرادة شيء دون غيره من المرادات، مع أن نسبتها إلى جميع المرادات والمأمورات نسبة واحدة .
[ ص: 216 ]
وأصلهم أنه يجوز تخصيص أحد المثلين دون الآخر بغير مخصص ، بل بمحض الإرادة ، وأن الذات اقتضت تلك الإرادة على ذلك الوجه دون غيرها ، لا لأمر آخر .
فإذا قيل: الذات اقتضت تناهيا من جانب دون جانب ، أو قدرا مخصوصا ، لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك ، لا سيما وهم مع ذلك يقولون : إن هذه الإرادة اقتضت أن تكون الحوادث متناهية من أحد الطرفين دون الآخر، فالحوادث عندهم لا تتناهى من جانب المستقبل مع تناهيها من جانب الماضي، ومع إمكان تقدم الحوادث على مبدأ حدوثها وتأخرها عن ذلك المبدأ ، ولكن الإرادة هي المخصصة لأحد المثلين ، والذات هي المخصصة لتلك الإرادة المعينة دون غيرها من الإرادات ، وهي المخصصة للكلام المعين الذي هو أمر بشيء معين دون غيره من الكلام والأوامر .
والمعتزلة يقولون : إن تلك الذات هي المخصصة لأحد المقدورين دون أمثاله من المقدورات ، وكذلك هي المخصصة لكونها آمرة ومتكلمة وفاعلة بالأمر المعين ، والكلام المعين ، والفعل المعين ، دون غيره من الأوامر والكلام والفعل ، وهي المخصصة للإرادة ، أو لكونه مريدا دون غير تلك الإرادة ، أو غير تلك المريدية .
والفلاسفة يقولون : إن الذات أو الوجود الذي لا اختصاص له
[ ص: 217 ] بحقيقة من الحقائق ولا صفة من الصفات، هو المخصص للعالم كله بما هو عليه من الحقائق والصفات والمقادير ، وأنه علة تامة موجبة للمعلول، مع أن الحوادث من المعلولات ليست أعيانها أزلية ، ولم يكن فيه ما يوجب تأخر شيء من المعلولات ، ولا قام به صفة ولا معنى ولا فعل يوجب التخصيص ، لا بحقيقة دون حقيقة، ولا بصفة دون صفة، ولا لحادث دون حادث ، ولا لتأخير ما يتأخر .
والعالم يشهد فيه من الحقائق المختلفة والحوادث الحادثة، ما يعلم معه بالضرورة أنه لا بد له من مخصص ، وهم لا يثبتون إلا وجودا مطلقا ، ليس فيه اختصاص وجودي بوجه من الوجوه ، فضلا عن أن يكون مقتضيا لتخصيص حقيقة دون حقيقة ، وصفة دون صفة ، والحدوث من غير سبب يقتضي الحدوث ، وهذه الأمور لبسطها موضع آخر .
والمقصود أن هؤلاء القائلين بعدم التناهي ، أو بالتناهي من جانب دون جانب، مع كون قولهم فاسدا، فنفاة كون الرب على العرش الذين يحتجون على نفي ذلك بنفي الجسم ، وعلى نفي الجسم بهذه الحجج، يلزمهم من التناقض أعظم مما يلزم المثبتين. والمقدمات التي
[ ص: 218 ] يحتجون بها هي أنفسها -وما هو أقوى منها من جنسها- تدل على فساد أقوالهم بطريق الأولى ، فإن كانت صحيحة دلت على فساد قولهم، ومتى فسد قولهم صح قول المثبتة لامتناع رفع النقيضين ، وإن كانت باطلة لم تدل على فساد قول المثبتة ، فدل ذلك على أن هذه المقدمات مستلزمة فساد قول النفاة دون قول أهل الإثبات .
وهذه الطريق هي ثابتة في الأدلة الشرعية والعقلية ، فإنا قد بينا في الرد على أصول
الجهمية النفاة للصفات في الكلام على "تأسيس التقديس" وغيره أن عامة ما يحتج به النفاة للرؤية، والنفاة لكونه فوق العرش ونحوهم، من الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة، هي أنفسها تدل على نقيض قولهم ، ولا تدل على قولهم ، فضلا عما يعترفون هم بدلالته على نقيض قولهم، وهكذا أيضا عامة ما يحتجون به من الأدلة العقلية، إذا وصلت معهم فيها إلى آخر كلامهم، وما يجيبون به معارضهم ، وجدت كلامهم في ذلك يدل على نقيض قولهم، وأن ما يذكرونه من المناظرات العقلية، هو على قول أهل الإثبات أدل منه على قولهم .
[ ص: 219 ]