وغاية ما يقال : إن الاجتماع صفة للأجزاء المجتمعة الموجودة الواجبة. ومعلوم أن صفة الأجزاء الواجبة بنفسها أولى أن تكون موجودة واجبة، من صفة الماهية التي هي في نفسها ليست وجودا .
فهذا الذي ذكره هناك حجة عليه هنا، مع أنه يمكن تقريره بخير مما قرره به ، فإنه قد يقال : إن هذا تقرير ضعيف .
وذلك أنه قال : "لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره ، فإن الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقرا إلى مؤثر فاعل ، ولا يمتنع أن يكون موجبا بنفسه، وإن كان مفتقرا إلى القابل ، فإن
[ ص: 243 ] الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه ، أو لما هو خارج عنه ، وهذا كما يقول الفيلسوف في العقل الفعال بأنه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية، وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة" .
فقد يقال: إن هذا التقرير ضعيف لوجوه :
أحدها : أن الكلام فيما هو واجب بنفسه ، لا فيما هو موجب لغيره أو فاعل له ، وإذا قدر أن الموجب الفاعل يقف على غيره ، لم يلزم أن يكون الواجب بنفسه يقف على غيره .
الثاني : أن الموجب الفاعل لا تقف نفسه على غيره ، وإنما يقف تأثيره ، ولا يلزم من توقف تأثيره على غيره توقفه . وهذا كما ذكره من التمثيل بالعقل الفعال ، فإن أحدا لا يقول: إن نفسه تتوقف على غيره الذي يقف عليه تأثيره ، فإذا كان هذا في الموجب فكيف بالواجب ؟
بل هم يقولون : إن نفس إيجابه يتوقف على غيره ، بل وصول الأثر إلى المحل يتوقف على استعداد المحل .
[ ص: 244 ]
الثالث : أن هذا التمثيل يمكن في غير الواجب بنفسه، أما هو سبحانه وتعالى فلا يتصور أن تقف ذاته على غيره ، ولا فعله على غيره ، فإن القوابل هي أيضا من فعله ، فالكلام في فعله للمقبول لها ، كالكلام في فعله للقابل ، فكل ما سواه فقير إليه مفعول له ، وهو مستغن عن كل ما سواه من كل وجه ، بخلاف الفاعل المخلوق الذي يتوقف فعله على قابل ، فإنه فعل مفتقر إلى شيء منفصل عنه، لكن يمكن أن يجاب عنه بأن يقال : إذا كان الموجب لغيره المتوقف إيجابه على غيره لا يمنع أن يكون موجبا بنفسه ، كما قالوا في العقل الفعال ، فأن يكون توقف إيجابه على غيره لا يمنع أن يكون واجبا بنفسه أولى وأحرى ، فإن الموجب لغيره واجب وزيادة، إذ لا يوجد إلا ما هو موجود ولا يوجب إلا ما هو واجب .
والعقل الفعال يقولون : هو واجب بغيره ، وهو موجب بغيره ، لا واجب بنفسه . ومقصوده أن الوجوب والإيجاب بالذات، لا يمنع توقف ذلك على غيره ، وإنما يمنع كونه مفعولا للغير .
وتلخيص الكلام : أنه إذا قيل: إن الوجود زائد على الماهية ، كانت الماهية محلا للوجود الواجب، فيكون الواجب لنفسه مفتقرا إلى قابل لا إلى فاعل .
فنقول :
الواجب هو الذي لا يكون مفتقرا إلى فاعل ، ليس هو الذي لا يكون مفتقرا إلى قابل ، فإن الذي قام عليه قطع التسلسل أن الواجب لا فاعل له ولا علة .
[ ص: 245 ]
أما كون الوجود الواجب له محل ، هو موصوف به أم لا ؟ فذاك كلام آخر. لكنه عضد ذلك بأن الإيجاب بالذات لا ينافي كون الموجب له محل يقبله ، فكذلك الوجوب بالذات لا ينفي أن يكون له محل يقبله، واستشهد بالعقل الفعال، لكنهم يقولون : العقل الفعال ليس بموجب بالذات،وأما الرب الموجب بالذات فليس له محل يقبله .
فتبين أن الاستشهاد بهذا لا يصح، وليس التمثيل به مطابقا .
والمقصود هنا أن الذي يعتمد عليه هو وأمثاله في نفي ما يسمونه التركيب ، هم أنفسهم قد أبطلوه في مواضع أخر، واحتجوا به في موضع آخر ، وهو حيث احتجوا به أضعف منه حيث أبطلوه .