فإن قيل: المراد بالعلة الحركة المولدة للصوت والمقابلة المولدة للشعاع، فيقال: الحركة مع الصوت والمقابلة مع الشعاع، إما أن يكونا متقارنين؛ فإن كانا متقارنين في الزمان لم يكن أحدهما متقدما على الآخر بوجه من الوجوه، ولا نسلم على هذا التقدير أن الحركة والمقابلة هي علة الصوت والشعاع؛ بل علة ذلك هو الفاعل للحركة والفاعل للمقابلة. وإذا كانت
[ ص: 205 ] المقابلة لم يفعلها واحد من الخلق، والحركة لم يفعلها واحد من الخلق: لم يكن للفاعل لهذا المتولد واحد من الخلق وهذا هو الصواب المقطوع به أن جميع المتولدات لا يجوز أن تكون فعلا لفاعل واحد من الخلق؛ بل كل من الأمرين سبب فيها، وهما متشاركان فيها متعاونان عليها، وقد
بينا أن الخلق لا يفعل فعلا تاما إلا بشركة من غيره، والخالق سبحانه هو الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وذلك يظهر ببيان ما ذكروه من المثال، فالناقر إذا نقر في طشت فحدث صوت، فالصوت لا بد له من فعل الإنسان، ومن الجسم الذي جعلت عليه النقرة، فجميع ما يحدثه الإنسان من الأصوات منفصلا عنه، لا بد فيه من جسم آخر معه، وأما صوته القائم ببدنه؛ فإنه يحرك عضوين فصاعدا من أعضائه لا يكون الصوت بحركة شيء واحد، فالحركتان جميعا هنا سبب الصوت، وهو وإن كان المحرك لأعضائه، فنفس أعضائه والنقرة التي فيها، والصلابة التي بها صارت متصوتة، ليس من فعله، ولا مقدورا له؛ بل الله هو الذي خلق ذلك له وجعله آلة له بمنزلة الآلات المنفصلة عنه؛ فنفس قدرته لا تستقل بالصوت إلا بهذه الأمور الخارجة عن قدرته؛
[ ص: 206 ] فصار الصوت متولدا عما يقدر عليه العبد، وعما لا يقدر عليه العبد، وكل ذلك أسباب وشروط ليس شيء منها علية تامة، فقد ظهر أنه إذا قيل إن الصوت والحركة / متقارنان في الزمان لم يجز أن تجعل الحركة علة للصوت، بل يكون الفاعل للصوت هو الفاعل للحركة. أكثر ما يقال: إن وجود الصوت مشروط بوجود الحركة، كما تشترط الحركة في ذلك الشرط، لا يجب أن يتقدم المشروط؛ بل يجب مقارنته له. فإذا تكون الحركة والمقابلة شرطا في الصوت والشعاع، ولا يجب أن يكونا متقدمين عليه؛ بل دعوى تقدم الحركة والمقابلة مع القول باقترانهما جمع بين الضدين.
وأما إن قيل إن الصوت والحركة ليسا متقارنين في الزمان؛ بل الحركة قبل الصوت، فعلى هذا التقدير لا يضر القول بتقدم الحركة على الصوت؛ إذ المقصود أنه يمتنع أن تكون الحركة متقدمة بوجه، وتكون متقارنة في الزمان، بل إما أن تكون متقدمة أو تكون مقارنة للحقيقة، وأما التقدم الذهني وهو إدراك أحدهما قبل الآخر، أو جعل أحدهما شرطا أو مفردا أو بسيطا أو نحو ذلك، فهذا الترتيب الذهني لا يقتضي الترتيب
[ ص: 207 ] الخارجي؛ بل هذا الترتيب الذهني بمنزلة الترتيب النطقي على ما تقدم بيانه، ووجود الباري تعالى حقيقي خارجي، ليس هو في مجرد الذهني، وكذلك القول في مثالهم الآخر، وهو تولد الحركة عن الحركة، كقول القائل: حركت يدي، فتحرك خاتمي أو كمي. فإنه من [هذا] الباب، ليس مجرد حركة اليد علة تامة لحركة الخاتم أو الكم؛ بل نفس وجود محل الحركة، الذي هو الخاتم والكم، هو شرط أو سبب في وجود الحركة. فالحركة تتوقف على المحل الذي يقوم به، كما تتوقف على السبب الذي يطلبها، وإذا كانت هذه الحركة تتوقف على أمرين فصاعدا فالقول في وجود هذه الحركة مع حركة اليد كالقول في الحركة والصوت؛ إما أن يقال: هما متقارنان في الزمان، فلا يكون أحدهما علة للآخر، وإن كان شرطا مقارنا له، وإما أن
[ ص: 208 ] يكونا متعاقبين فيكونان متعاقبين في الزمان وإن كان سريعا، فحركة الخاتم لليد كحركة بعض اليد مع بعض، مثل حركة الأصابع مع الكف، أو حركة الظفر مع الأنملة.