[ ص: 40 ] واليهود والنصارى فيهم معطلة وممثلة ، وإن كان الغالب على خاصتهم التعطيل ، فلذلك كانت المعطلة فينا أكثر من الممثلين ، حتى إن المعطلة يكثر وجودهم ، والممثلة لا يكاد يوجد منهم إلا الواحد بعد الواحد في الأحايين .
فلما حدثت
بدعة التعطيل والتمثيل أنكر ذلك فقهاء التابعين ، وكذلك من بعدهم من العلماء ورثة الأنبياء وأئمة المتقين ، وكان ذلك عندهم أعظم من جميع بدع المبتدعين ، حتى أعظم السلف أمر
الجهمية ونحوهم وكفروهم ، وإن كانوا عن غيرهم متوقفين ، واحتاجوا لانتشار البدع إلى ضبط السنن الدامغة للمبتدعين ، وكان أسعد الناس بهذه الوراثة أصحاب الكتاب والآثار المأخوذة عن سيد المرسلين -وهم أهل القرآن والحديث- الباحثين في كل باب في العلم عن آثار الصحابة والتابعين ، العالمين بصحيحه وعليله ، الفاهمين بمنطوقه ودليله ، السالكين سبيل السابقين ، الذين أخبر بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول :
"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" .
وكانوا هم أئمة الإسلام الذين هم قدوة المؤمنين ، بحيث كان
[ ص: 41 ] أرباب هذه البدع في أيامهم أصاغر مقموعين ، [و] كانت دلائل الحق وآياته ظاهرة مشهورة لمن كان لها يستبين . فقتل برأيهم
غيلان القدري nindex.php?page=showalam&ids=14005والجعد بن درهم nindex.php?page=showalam&ids=15658والجهم بن صفوان المعطلان ونحوهم من الظالمين .
إلى أن كان في أواخر المئة الثانية قل أولئك الهداة وكثر هؤلاء الغواة ، واستعوزوا إلى باطلهم بعض الولاة ، حتى ظهرت محنة الصفات في علماء المسلمين ، ودعوهم إلى
القول بخلق القرآن ، إذ هو مفتاح جحود الصفات ، وأقرب من غيره إلى المبتدئين . وظهر في الإسلام ما لم يعهد مثله من الفتنة في الدين ، حتى عد الناس من قام به ما كان أسى وصبرا من العلماء ، ومن أطفأ شررها من الخلفاء دفعا بجراءة ، مفضلا على غيره من الأولين ، وانكسرت بذلك سورة أهل البدع ظاهرا ، ولكن في النفوس من طواياها كمين مكين .
وصار من أسباب الفتنة أن نقلة الآثار قل فيهم الفقه والعقل ، كما أن ذوي النظر والاعتبار ضعف علمهم بآثار النبيين ، ولن يتم الدين إلا بمعرفة الآثار النبوية والسلفية وفقه لما قصدوه من المعاني الدينية ، كما كان علماء السالفين ، وصار ذلك سببا لإعراض كثير من طلبة العلم من أعيانهم عن النظر في قواعد الدين .
وظهر في الدولة المعتصمية مقاربا للمحنة
الجهمية من
الطائفة الخرمية من يقول بتواتر النبيين جريا على منهاج
الفلاسفة وسلوكا لسبيل الصابئين ، حتى جرت بينهم وبين المسلمين من الحروب ما هو مشهور عند المؤرخين .
[ ص: 42 ]
وظهر بأثر ذلك من أبطن ذلك من
القرامطة الباطنية والطائفة
الإسماعيلية الذين كثر فسادهم على الخاصة والعامة للدنيا والدين .