[ ص: 168 ] ولما كان
اسمه "القيوم" يتناول هذا وهذا ، وهو قيوم السماوات والأرض ومقيم كل مخلوق من الأعيان والصفات ، دل ذلك على أن كل مخلوق له نصيب من القيام ، فهو قائم بالقيم الذي أقامه ، كما أن له قدرا بالخلق ، فإن
اسمه "الخالق" يقتضي الإبداع والتقدير ، فقال :
إنا كل شيء خلقناه بقدر ، وقال :
قد جعل الله لكل شيء قدرا .
وإذا كان لكل شيء مخلوق قيام وقدر ، دل ذلك على
فساد قول من أثبت الجوهر الفرد ، ومن قال : العرض لا يبقى زمانين .
فإن الذين يقولون بالجوهر الفرد يثبتون شيئا لا تتميز يمينه عن يساره ، ولا يعرف بالحس ، وهو ممتنع وجوده ، فإن وجود ما لا يتميز منه جانب عن جانب ممتنع ، وإنما يفرضونه في الذهن .
وعلى قولهم لا قدر له ، والله تعالى قد جعل لكل شيء قدرا ، فما لا قدر له لم يخلق ، بل هو ممتنع .
وما يفرضه أهل الهندسة من نقطة مجردة وخط مجرد وسطح مجرد ، هي أمور مقدرة في الأذهان واللسان ، لا توجد مجردة في الخارج ، بل لا توجد إلا نقطة معينة مثل نقطة الماء والحبر ونحو ذلك مما يتميز منه جانب عن جانب ، لقوله تعالى :
قد جعل الله لكل شيء قدرا ، وقوله :
وخلق كل شيء فقدره تقديرا .
[ ص: 169 ]
والله سبحانه خالق الموجودات العينية ومعلم الصور الذهنية ، وأول ما نزل :
اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم .
ومن الناس من يقول : المعدوم شيء ثابت في الخارج ، وليس بمخلوق ، بل ثبوته قديم . وآخرون يقولون : الماهيات غير مجعولة .
وهؤلاء وهؤلاء اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان ، فأخرجوا بعض مخلوقاته عن أن تكون مخلوقة له .
وتحقيق الأمر أن كل ما يقدر فإما أن يكون ثابتا في الأعيان والموجود الخارج ، أو في العلم والوجود الذهني ، وهو سبحانه خالق هذا ومعلم هذا ، فلا يخرج شيء أصلا عن تخليقه وتعليمه ، بل هو الذي خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وقال :
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها . فهو خالق كل شيء وقيومه ، وكل ما أقامه القيوم فله قيام ، والحركة وإن وجدت شيئا فشيئا فلا بد لها من لبث ، لا يتصور أن تعدم قبل أن تلبث زمنا من الأزمان ، وقيوم السماوات هو الخالق الذي يبدعه ويجعل له ذلك القدر ، فجعل للأعيان قدرا ، وللحركات قدرا ، ولزمانها قدرا ، وبعض ذلك يطابق بعضا ، فإن الزمان مساوق للحركة ، والحركة هي مبدأ الأحداث . قال تعالى :
ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ،
[ ص: 170 ] والإيلاج هو بسبب الحركة الحولية ، كما أن اختلاف الليل والنهار وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل هو بسبب الحركة اليومية .
وهو سبحانه
فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ، وهو
فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا .
فذكر أنه فالق الإصباح بعد ذكره فلق الحب والنوى ، فإنه بسبب فلقه الإصباح وجعل الليل والنهار يتم ما يخلقه وينمو ويحصل مصلحته ، ثم ذلك يحصل بتسخير الشمس والقمر وجعلهما بحساب على وفق العدل في الحكمة ، لا يتقدم شيء على وقته ولا يتأخر شيء عن أجله ، وهو سبحانه يسوق المقادير إلى المواقيت .