صفحة جزء
76 - ( فصل )

الطريق الرابع عشر الحكم بشهادة العبد والأمة .

في كل ما تقبل فيه شهادة الحر والحرة . هذا الصحيح من مذهب أحمد ، وعنه تقبل في كل شيء ، إلا في الحدود والقصاص ، لاختلاف العلماء في قبول شهادته ، فلا ينتهض سببا لإقامة الحدود التي مبناها على الاحتياط ، والصحيح : الأول .

وقد حكي إجماع قديم ، حكاه الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : " ما علمت أحدا رد شهادة العبد " وهذا يدل على أن ردها إنما حدث بعد عصر الصحابة ، واشتهر هذا القول لما ذهب إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة ، وصار لهم أتباع يفتون ويقضون بأقوالهم ، فصار هذا القول عند الناس هو المعروف ، ولما كان مشهورا بالمدينة في زمن مالك ، قال : " ما علمت أحدا قبل شهادة العبد " وأنس بن مالك يقول ضد ذلك . [ ص: 140 ] وقبول شهادة العبد ، وهو موجب الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ، وصريح القياس ، وأصول الشرع ، وليس مع من ردها كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس .

قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا } والوسط : العدل الخيار ، ولا ريب في دخول العبد في هذا الخطاب ، فهو عدل بنص القرآن ، فدخل تحت قوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } .

وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } ، وهو من الذين آمنوا قطعا ، فيكون من الشهداء كذلك .

وقال تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ، ولا ريب أن العبد من رجالنا .

وقال تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } . فالعبد المؤمن الصالح من خير البرية ، فكيف ترد شهادته ؟ وقد عدله الله ورسوله ، كما في الحديث المعروف المرفوع : { يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين } ، والعبد يكون من حملة العلم ، فهو عدل بنص الكتاب والسنة ، [ ص: 141 ] وأجمع الناس على أنه مقبول الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا روي عنه الحديث ، فكيف تقبل شهادته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقبل شهادته على واحد من الناس ؟

ولا يقال : باب الرواية أوسع من باب الشهادة ، فيحتاط لها ، ما لا يحتاط للرواية ، فهذا كلام جرى على ألسن كثير من الناس ، وهو عار عن التحقيق والصواب ، فإن أولى ما ضبط واحتيط له : الشهادة على الرسول صلى الله عليه وسلم والرواية عنه ، فإن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره .

وإنما ردت الشهادة بالعداوة والقرابة والأنوثة دون الرواية ، لتطرق التهمة إلى شهادة العدو وشهادة الولد ، وخشية عدم ضبط المرأة وحفظها ، وأما العبد : فما يتطرق إليه من ذلك يتطرق إلى الحر سواء ، ولا فرق بينه وبينه في ذلك ألبتة ، فالمعنى الذي قبلت به روايته هو المعنى الذي تقبل به شهادته ، وأما المعنى الذي ردت به شهادة العدو والقرابة والمرأة فليس موجودا في العبد .

وأيضا ، فإن المقتضى لقبول شهادة المسلم عدالته ، وغلبة الظن بصدقه ، وعدم تطرق التهمة إليه ، وهذا بعينه موجود في العبد ، فالمقتضى موجود والمانع مفقود ، فإن الرق لا يصلح أن يكون مانعا ، فإنه لا يزيل مقتضى العدالة ، ولا تطرق تهمة ، كيف والعبد الذي يؤدي حق الله وحق سيده له أجران حيث يكون للحر أجر واحد ، وهو أحد الثلاثة الذين هم أول من يدخل الجنة ، ولهذا قبل [ ص: 142 ] شهادته أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم القدوة .

قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن الشعبي .

قال : قال شريح " لا نجيز شهادة العبد " ، فقال علي بن أبي طالب : " لكنا نجيزها " فكان شريح بعد ذلك يجيزها إلا لسيده : " وبه ، عن المختار بن فلفل ، قال : سألت أنس بن مالك عن شهادة العبد ؟ فقال : جائزة " .

وقال الثوري عن عمار الدهني ، قال : " شهدت شريحا شهد عنده عبد على دار ، فأجاز شهادته ، فقيل : إنه عبد ، فقال شريح : كلنا عبيد وإماء " .

وروى أحمد عن ابن سيرين : أنه كان لا يرى بشهادة العبد بأسا إذا كان عدلا .

وقال عطاء : شهادة العبد والمرأة جائزة في النكاح والطلاق .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة .

قال : سئل إياس بن معاوية عن شهادة العبد ؟ فقال : أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب ؟ يعني إنكارا لردها .

وذكر الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : " ما علمت أحدا رد شهادة العبد " .

وقد اختلف الناس في ذلك ، فردتها طائفة مطلقا ، وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة ، وقبلتها طائفة مطلقا حتى لسيده وقبلتها طائفة مطلقا إلا لسيده .

قال سفيان الثوري : عن إبراهيم النخعي ، عن الشعبي في العبد قال : " لا تجوز شهادته لسيده ، وتجوز لغيره " وهذا مذهب الإمام أحمد .

وأجازتها طائفة في الشيء اليسير دون الكثير ، وهذا قول إبراهيم النخعي ، وإحدى الروايتين عن شريح والشعبي .

والذين ردوها بكل حال منهم من قاس العبد على الكافر ، لأنه منقوص بالرق ، وذلك بالكفر ، وهذا من أفسد القياس في العالم ، وفساده معلوم بالضرورة من الدين ، ومنهم من احتج بقوله تعالى { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } والشهادة شيء ، فهو غير قادر عليها .

قال أبو محمد بن حزم في جواب ذلك : تحريف كلام الله عن مواضعه يهلك في الدنيا والآخرة ،

ولم يقل الله تعالى : إن كل عبد لا يقدر على شيء ، إنما ضرب الله تعالى المثل بعبد من عبيده هذه صفته ، وقد توجد هذه الصفة في كثير من الأحرار ، وبالمشاهدة نعرف كثيرا من العبيد أقدر على الأشياء من كثير من الأحرار .

ونقول لهم : هل يلزم العبيد الصلاة والصيام والطهارة ، ويحرم عليهم من المآكل والمشارب والفروج [ ص: 143 ] ما يحرم على الأحرار ، أم لا يلزمهم ذلك ؟ لكونهم لا يقدرون عندكم على شيء ألبتة ، قال : ومن نسب هذا إلى الله فقد كذب عليه جهارا .

واحتج بعضهم بقوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } فنهى الشهداء عن التخلف والإباء ، ومنافع العبد لسيده ، فله أن يتخلف ويأبى إلا خدمته ، وهذا لا يدل إلا على عدم قبولها ، إلا إذا أذن له سيده في تحملها وأدائها إذا لم يكن في ذلك تعطيل لخدمة السيد .

فأبعد النجعة من فهم رد شهادة العبيد العدول بذلك ، فإن كان هذا مقتضى الآية كان مقتضى ذلك أيضا رد روايتهم واحتج بعضهم بقوله تعالى : { والذين هم بشهاداتهم قائمون } .

والعبد ليس من أهل القيام على غيره ، وهذا من جنس احتجاج بعضهم أن الشهادة ولاية ، والعبد ليس من أهل الولاية على غيره ، وهذا في غاية الضعف .

فإنه يقال لهم : ما تعنون بالولاية ؟ أتريدون بها الشهادة ، وكونه مقبول القول على المشهود عليه ، أم كونه حاكما عليه منفذا فيه الحكم ؟ فإن أردتم الأول كان التقدير : إن الشهادة شهادة والعبد ليس من أهل الشهادة ، وهذا حاصل دليلكم ، وإن أردتم الثاني فمعلوم البطلان قطعا ، والشهادة لا تستلزمه .

واحتج بعضهم بأن الرق أثر من آثار الكفر ، فمنع قبول الشهادة كالفسق ، وهذا في غاية البطلان ، فإن هذا لو صح لمنع قبول روايته ، وفتواه ، والصلاة خلفه وحصول الأجرين له .

واحتج بأنه يستغرق الزمان بخدمة سيده ، فليس له وقت يملك فيه أداء الشهادة ، ولا يملك عليه .

وهذا أضعف مما قبله ، لأنه ينتقض بقبول روايته وفتواه ، وينتقض بالحرة المزوجة ، وينتقض بما لو أذن له سيده ، وينتقض بالأجير الذي استغرقت ساعات يومه وليلته بعقد الإجارة ، ويبطل بأن أداء الشهادة لا يبطل حق السيد من خدمته .

واحتج بأن العبد سلعة من السلع ، فكيف تشهد السلع ؟ وهذا في غاية الغثاثة والسماجة ، فإنه تقبل شهادة هذه السلعة ، كما تقبل روايتها وفتواها ، وتصح إمامتها ، وتلزمها الصلاة والصوم والطهارة .

واحتج بأنه دنيء ، والشهادة منصب علي ، فليس هو من أهلها .

وهذا من ذلك الطراز ، فإنه إن أريد بدناءته ما يقدح في دينه وعدالته ، فليس كلامنا فيمن هو كذلك ، ونافع وعكرمة أجل وأشرف من أكثر الأحرار عند الله وعند الناس ، وإن أريد بدناءته أنه [ ص: 144 ] مبتلى برق الغير فهذه البلوى لا تمنع قبول الشهادة ، بل هي مما يرفع الله بها درجة العبد ، ويضاعف له بها الأجر .

فهذه الحجج كما تراها من الضعف والوهن ، وإذا قابلت بينها وبين حجج القائلين بشهادته لم يخف عليك الصواب ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية