80 - ( فصل )
فهذا حكم المسألة الأولى .
وأما المسألة الثانية - هي قبول شهادتهم على المسلمين في السفر - فقد دل عليها صريح القرآن ، وعمل بها الصحابة ، وذهب إليها فقهاء الحديث .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16207صالح بن أحمد : قال أبي : لا تجوز شهادة
أهل الذمة إلا في موضع في السفر ، الذي قال الله تعالى فيه : {
أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } فأجازها
nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى الأشعري .
وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس " أو آخران من غيركم من
أهل الكتاب " وهذا موضع ضرورة ، لأنه في سفر ، ولا نجد من يشهد من المسلمين ، وإنما جاءت في هذا المعنى ا هـ .
وقال
إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد - فذكر هذا المعنى - قلت : فإن كان ذلك على وصية المسلمين هل تجوز شهادتهم ؟ قال : نعم ، إذا كان على الضرورة ، قلت : أليس يقال : هذه الآية منسوخة ؟ قال : من يقول ؟ وأنكر ذلك ، وقال : وهل يقول ذلك إلا
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم ؟ وقال في رواية ابنيه
عبد الله nindex.php?page=showalam&ids=15772وحنبل : تجوز شهادة النصراني ، واليهودي في الميراث ، على ما أجاز
nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى في السفر ، وأحلفه .
وقال في رواية
أبي الحارث : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني في شيء إلا في الوصية في السفر ، إذا لم يكن يوجد غيرهم ، قال الله تعالى : {
أو آخران من غيركم } ، فلا تجوز شهادتهم إلا في هذا الموضع ، وهذا مذهب قاضي العلم والعدل :
nindex.php?page=showalam&ids=16097شريح ، وقول
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ، وحكاه
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=110وأبي موسى الأشعري .
قال
المروذي : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13608ابن نمير ، قال : حدثني
يعلى بن الحارث عن أبيه عن
غيلان بن جامع ، عن
إسماعيل بن خالد ، عن
عامر .
قال : " شهد رجلان من أهل
دقوقاء على وصية مسلم ، فاستحلفهما
[ ص: 154 ] nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى بعد العصر : ما اشترينا به ثمنا قليلا ، ولا كتمنا شهادة إنا إذا لمن الآثمين ، ثم قال : إن هذه القضية ما قضي فيها مذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم . وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16903محمد بن إسحاق عن
أبي النضر عن
باذان مولى أم هانئ - عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، عن
تميم الداري في قوله عز وجل : {
يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } الآية قال : " برئ الناس منها غيري وغير
عدي بن بداء - وكانا نصرانيين يختلفان إلى
الشام [ قبل الإسلام ] - فأتيا
الشام [ لتجارتهما ] ، وقدم
بزيل بن أبي مريم مولى بني سهم - ومعه جام من فضة [ يريد به الملك ] ، هو أعظم تجارته ، فمرض ، فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله .
قال
تميم : فلما مات أخذنا الجام ، فبعناه بألف درهم ، ثم اقتسمناه أنا
وعدي بن بداء ، فلما قدمنا دفعنا ماله إلى أهله ، فسألوا عن الجام ؟ فقلنا : ما دفع إلينا غير هذا ، فلما أسلمت تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله ، فأخبرتهم الخبر ، وأديت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجيبوا ، فأحلفهم بما يعظم به على أهل دينهم فأنزل الله عز وجل : {
يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الآية .
فحلف
nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص وأخو سهم ، فنزعت الخمسمائة درهم من
عدي بن بداء " .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17313يحيى بن أبي زائدة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16917محمد بن القاسم ، عن
عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، قال : " كان
تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى
مكة بالتجارة ، فخرج معهم رجل من
بني سهم ، فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما ، فدفعا تركته إلى أهله ، وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب ، فتفقده أولياؤه ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفهما : ما كتمنا ، ولا أضعنا ، ثم عرف الجام
بمكة ، فقالوا : اشتريناه من
تميم وعدي ، فقام رجلان من أولياء السهمي ، فحلفا بالله : إن هذا لجام السهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ، فأخذ الجام ، وفيهما نزلت هذه الآية .
[ ص: 155 ]
والقول بهذه الآية هو قول جمهور السلف ، قالت
عائشة رضي الله عنها : " سورة المائدة آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها حلالا فحللوه ، وما وجدتم فيها حراما فحرموه " .
وصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال في هذه الآية : " هذا لمن مات وعنده المسلمون ، فأمر الله أن يشهد في وصيته عدلين من المسلمين ، ثم قال تعالى : {
أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين فأمر الله عز وجل أن يشهد رجلين من غير المسلمين ، فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله : لا نشتري بشهادتنا ثمنا " وقد تقدم أن
nindex.php?page=showalam&ids=110أبا موسى حكم بذلك .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري : عن
nindex.php?page=showalam&ids=11813أبي إسحاق السبيعي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12171عمرو بن شرحبيل ، قال : " لم ينسخ من سورة المائدة شيء " .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع : عن
nindex.php?page=showalam&ids=16102شعبة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب " أو آخران من غيركم " قال : " من
أهل الكتاب " وفي رواية صحيحة عنه " من غير أهل ملتكم " .
وصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=16097شريح قال : " لا تجوز
شهادة المشركين على المسلمين إلا في الوصية ، ولا تجوز في الوصية إلا أن يكون مسافرا " .
وصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي " من غيركم " . " من أهل ملتكم " وصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير " أو آخران من غيركم " قال : " إذا كان في أرض الشرك ، فأوصى إلى رجلين من
أهل الكتاب ، فإنهما يحلفان
[ ص: 156 ] بعد العصر ، فإن اطلع بعد حلفهما على أنهما خانا ، حلف أولياء الميت ، أنه كذا وكذا ، واستحقوا " . وصح عن
الشعبي {
أو آخران من غيركم } قال : " من
اليهود والنصارى " . وصح ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد قال : " من غير أهل الملة " وصح عن
يحيى مثله وصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين ذلك . فهؤلاء أئمة المؤمنين :
nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى الأشعري ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس .
وروي نحو ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه ذكر ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد بن حزم ، وذكره
أبو يعلى عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، ولا مخالف لهم من الصحابة . ومن التابعين :
nindex.php?page=showalam&ids=12171عمرو بن شرحبيل ،
nindex.php?page=showalam&ids=16097وشريح ،
nindex.php?page=showalam&ids=16536وعبيدة ،
nindex.php?page=showalam&ids=12354والنخعي ،
والشعبي ، والسعيدان ،
وأبو مجلز ،
nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين ،
nindex.php?page=showalam&ids=17344ويحيى بن يعمر ، ومن تابعي التابعين :
nindex.php?page=showalam&ids=16004كسفيان الثوري ،
nindex.php?page=showalam&ids=17311ويحيى بن حمزة ،
والأوزاعي .
وبعد هؤلاء :
nindex.php?page=showalam&ids=12074كأبي عبيد ،
nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل ، وجمهور فقهاء أهل الحديث ، وهو قول جميع أهل الظاهر . وخالفهم آخرون . ثم اختلفوا في تخريج الآية على ثلاث طرق :
أحدها : أن المراد بقوله {
من غيركم } أي من غير قبيلتكم ، وروي ذلك عن
الحسن ، وروي عن
الزهري أيضا .
والثاني : أن الآية منسوخة ، وهذا مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم وغيره .
والثالث : أن المراد بالشهادة فيها : أيمان الوصي بالله تعالى للورثة ، لا الشهادة المعروفة .
قال القائلون بها : أما دعوى النسخ فباطلة ، فإنه يتضمن أن حكمها باطل ، لا يحل العمل به ، وأنه ليس من الدين ، وهذا ليس بمقبول إلا بحجة صحيحة لا معارض لها ، ولا يمكن أحد قط أن يأتي بنص صحيح صريح متأخر عن هذه الآية مخالف لها لا يمكن الجمع بينه وبينها ، فإن وجد إلى ذلك سبيلا صح النسخ ، وإلا فما معه إلا مجرد الدعوى الباطلة ، ثم قد قالت أعلم نساء الصحابة بالقرآن : إنه لا منسوخ في المائدة ، وقاله غيرها أيضا من السلف ، وعمل بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ، ولو جاز قبول دعوى النسخ بلا حجة لكان كل من احتج عليه بنص يقول : هو منسوخ ، وكأن القائل لذلك لم يعلم أن معنى كون النص منسوخا : أن الله سبحانه حرم العمل به ، وأبطل كونه من الدين والشرع ، ودون هذا مفاوز تنقطع فيها الأعناق . قالوا : وأما قول من قال : المراد بقوله {
من غيركم } أي من غير قبيلتكم : فلا يخفى بطلانه وفساده ، فإنه ليس في أول الآية خطاب لقبيلة دون قبيلة ، بل هو خطاب عام لجميع المؤمنين فلا
[ ص: 157 ] يكون غير المؤمنين إلا من الكفار ، هذا مما لا شك فيه ، والذي قال من غير قبيلتكم : زلة عالم ، غفل عن تدبر الآية .
وأما قول من قال : " إن المراد بالشهادة : أيمان الأوصياء للورثة " فباطل من وجوه :
أحدها أنه سبحانه قال : {
شهادة بينكم } ولم يقل : أيمان بينكم .
الثاني : أنه قال : {
اثنان } واليمين لا تختص بالاثنين .
الثالث أنه قال : {
ذوا عدل منكم } واليمين لا يشترط فيها ذلك .
الرابع : أنه قال : {
أو آخران من غيركم } واليمين لا يشترط فيها شيء من ذلك .
الخامس : أنه قيد ذلك بالضرب في الأرض ، وليس ذلك شرطا في اليمين .
السادس : أنه قال : {
ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين } وهذا لا يقال في اليمين في هذه الأفعال ، بل هو نظير قوله : {
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } .
السابع : أنه قال : {
ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } ولم يقل بالأيمان .
الثامن : أنه قال : {
أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } فجعل الأيمان قسيما للشهادة ، وهذا صريح في أنها غيرها .
التاسع : أنه قال : {
فيقسمان بالله : لشهادتنا أحق من شهادتهما } فذكر اليمين والشهادة ، ولو كانت اليمين على المدعى عليه لما احتاجا إلى ذلك ، ولكفاهما القسم : أنهما ما خانا .
العاشر : أن الشاهدين يحلفان بالله {
لا نكتم شهادة الله } ولو كان المراد بها اليمين ، لكان المعنى : يحلفان بالله لا نكتم اليمين ، وهذا لا معنى له ألبتة ، فإن قيل اليمين لا تكتم ، فكيف يقال : احلف أنك لا تكتم حلفك ؟
الحادي عشر : أن المتعارف من " الشهادة " في القرآن والسنة : إنما هو الشهادة المعروفة ، كقوله تعالى : {
وأقيموا الشهادة لله } وقوله : {
واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وقوله : {
وأشهدوا ذوي عدل منكم } ونظائره . فإن قيل : فقد سمى الله أيمان اللعان شهادة في قوله : {
فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } وقال : {
ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } ؟ .
[ ص: 158 ] قيل إنما سمي أيمان الزوج شهادة لأنها قائمة مقام البينة ، ولذلك ترجم المرأة إذا نكلت ، وسمي أيمانها شهادة ، لأنها في مقابلة شهادة الزوج .
وأيضا ، فإن هذه اليمين خصت من بين الأيمان بلفظ " الشهادة . بالله " تأكيدا لشأنها ، وتعظيما لحظرها .
الثاني عشر : أنه قال : {
شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } ومن المعلوم : أنه لا يصح أن يكون : أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت ، فإن الموصي إنما يحتاج للشاهدين ، لا إلى اليمين .
الثالث عشر : أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حكم به - وحكم به الصحابة بعده - هو تفسير الآية قطعا ، وما عداه باطل ، فيجب أن يرغب عنه . أما ما ذكره بعض الناس : أن ذلك مخالف للأصول والقياس من وجوه : أحدها : أن ذلك يتضمن شهادة الكافر ، ولا شهادة له .
الثاني : أنه يتضمن حبس الشاهدين ، والشاهد لا يحبس .
الثالث : أنه يتضمن تحليفهما ، والشاهد لا يحلف .
الرابع : أنه يتضمن تحليف إحدى البينتين : أن شهادتهما أحق من شهادة البينة الأخرى .
الخامس : أنه يتضمن شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم .
السادس : أن أيمان هؤلاء المستحقين التي قدمت على شهادة الشاهدين لما ظهرت خيانتهما : إن كانت شهادة ، فكيف يشهدان لأنفسهما ؟ وإن كانت أيمانا ، فكيف يقضى بيمين المدعي بلا شاهد لا رد ؟ .
السابع : أن هذا يتضمن القسامة في الأموال ، والحكم بأيمان المدعين ، ولا يعرف بهذا القائل فهذا - وأمثاله - من الاعتراضات التي نعوذ بالله منها ، ونسأله العافية ، فإنها اعتراضات على حكم الله وشرعه وكتابه .
فالجواب عنها : بيان أنها مخالفة لنص الآية ، معارضة لها ، فهي من الرأي الباطل ، الذي حذر منه سلف الأمة ، وقالوا : إنه يتضمن تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله ، وإسقاط ما فرض الله ، ولهذا اتفقت أقوال السلف على ذم هذا النوع من الرأي ، وأنه لا يحل الأخذ به في دين الله ، ولا يلزم الجواب عن هذه الاعتراضات وأمثالها ، ولكن نذكر الجواب بيانا للحكمة ، وأن الذي تضمنته الآية هو المصلحة ، وهو أعدل ما يحكم به ، وخير من كل حكم سواه {
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ } .
[ ص: 159 ]
وهذا المسلك الباطل يسلكه من يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا ، فإذا جاءهم حديث خلاف قولهم ، قالوا : هذا حديث يخالف الأصول فلا يقبل .
والمحكمون لكتاب الله وسنة رسوله يرون هذه الآراء وأمثالها من أبطل الباطل ; لمخالفتها للأصول التي هي كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه الآراء هي المخالفة للأصول حتما ، فهي باطلة قطعا ، على أن هذا الحكم أصل بنفسه ، مستغن عن نظير يلحق به .
ونحن نجيبكم عن هذه الوجوه أجوبة مفصلة ، فنقول : أما قولكم : إنها تتضمن شهادة الكافر ، ولا شهادة له . قلنا : كيف يقول هذا أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وهم يجيزون شهادة الكافر في كل شيء بعضهم على بعض ؟ . أم كيف يقوله أصحاب مالك وهم يجيزون شهادة طبيبين كافرين حيث لا يوجد طبيب مسلم ، وليس ذلك في القرآن ، فهلا أجازوا شهادة كافرين في الوصية في السفر ، حيث لا يوجد مسلم ، وهو في القرآن ، وقد حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده ؟ . أم كيف يقوله أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وهم يرون نص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي صريحا : " إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به ، ودعوا قولي " وفي لفظ له " فأنا أذهب إليه " وفي لفظ " فاضربوا بقولي عرض الحائط " .
وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء به نص كتاب الله ، وعمل به الصحابة . وقولكم : الشاهدان لا يحبسان ، ليس المراد هنا : السجن الذي يعاقب به أهل الجرائم ، وإنما المراد به : إمساكهما لليمين بعد الصلاة ، كما يقال : فلان يصبر لليمين ، أي يمسك لها ، وفي الحديث {
nindex.php?page=hadith&LINKID=42260ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان } .
وقولكم : يتضمن تحليف الشاهدين : والشاهد لا يحلف ، فمن أين لكم أن مثل هذا الشاهد الذي شهادته بدل عن شهادة المسلم للضرورة - لا يحلف ؟ فأي كتاب ، أم أية سنة جاءت بذلك ؟ وقد حلف
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع ، وذهب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، في إحدى الروايتين عنه ، وقد تقدم الكلام في تحليف الشهود المسلمين إذا ارتاب فيهم الحاكم ، ومن ذهب إليه من السلف وقضاة العدل .
وقولكم : فيه شهادة المدعين لأنفسهم ، والحكم لهم بمجرد دعواهم ، ليس بصحيح ، فإن الله سبحانه جعل الأيمان لهم عند ظهور اللوث بخيانة الوصيين ، فشرع لهما أن يحلفا ويستحقا ، كما شرع لمدعي الدم في القسامة أن يحلفوا ويستحقوا دم وليهم ، لظهور اللوث ، فكانت اليمين لقوتها بظهور
[ ص: 160 ] اللوث في الموضعين ، وليس هذا من باب شهادة المدعي لنفسه ، بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة ، لقوة جانبه ، كما حكم صلى الله عليه وسلم للمدعي بيمينه ، لما قوي جانبه بالشاهد الواحد ، فقوة جانب هؤلاء بظهور خيانة الوصيين كقوة جانب المدعي بالشاهد ، وقوة جانبه بنكول خصمه ، وقوة جانبه باللوث ، وقوة جانبه بشهادة العرف في تداعي الزوجين المتاع ، وغير ذلك . فهذا محض العدل ، ومقتضى أصول الشرع ، وموجب القياس الصحيح .
وقولكم : إن هذا يتضمن القسامة في الأموال . قلنا : نعم لعمر الله ، وهي أولى بالقبول من القسامة في الدماء ، ولا سيما مع ظهور اللوث ، وأي فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم ، وظهوره في صحة الدعوى بالمال ؟ وهل في القياس أصح من هذا ؟ وقد ذكر أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك القسامة في الأموال ، وذلك فيما إذا
أغار قوم على بيت رجل وأخذوا ما فيه ، والناس ينظرون إليهم ، ولم يشهدوا على معاينة ما أخذوه ، ولكن علم أنهم أغاروا وانتهبوا ، فقال
ابن القاسم وابن الماجشون : القول قول المنتهب مع يمينه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17098مطرف nindex.php?page=showalam&ids=13469وابن كنانة وابن حبيب : القول قول المنهوب منه مع يمينه فيما يشبه ، وقد تقدم ذلك ، وذكرنا أنه اختيار
شيخ الإسلام ، وحكينا كلامه رحمه الله .
ولا يستريب عالم أن اعتبار اللوث في الأموال التي تباح بالبدل أولى منه في الدماء التي لا تباح به . فإن قيل : فالدماء يحتاط لها ؟ .
قيل : نعم ، وهذا الاحتياط لم يمنع القول بالقسامة فيها ، وإن استحق بها دم المقسم عليه .
ثم إن الموجبين للدية في القسامة ، حقيقة قولهم : إن القسامة على المال والقتل طريق لوجوبه ، فهكذا القسامة هاهنا على مال ، كالدية سواء ، فهذا من أصح القياس في الدماء وأبينه . فظهر أن القول بموجب هذه الآية هو الحق الذي لا معدل عنه نصا وقياسا ومصلحة ، وبالله التوفيق .
81 - ( فصل )
قال
شيخنا رحمه الله : وقول الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضع : " هو ضرورة " يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا . على هذا لو قيل : يحلفون في شهادة بعضهم على بعض ، كما يحلفون على شهاداتهم على المسلمين في وصية السفر ، لكان متوجها ، ولو قيل : تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون ، لكان له وجه ، ويكون بدلا مطلقا .
[ ص: 161 ]
قال الشيخ : ويؤيد هذا ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي وغيره - محتجا به - وهو في الناسخ والمنسوخ
لأبي عبيد - أن رجلا من المسلمين خرج ، فمر بقرية فمرض ، ومعه رجلان من المسلمين ، فدفع إليهما ماله ، ثم قال : ادعوا لي من أشهده على ما قبضتماه ، فلم يجدا أحدا من المسلمين في تلك القرية ، فدعوا أناسا من
اليهود والنصارى ، فأشهدهم على ما دفع إليهما - وذكر القصة - فانطلقوا إلى
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، فأمر اليهودي والنصراني أن يحلفا بالله : لقد ترك من المال كذا وكذا ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين ، ثم أمر أهل المتوفى أن يحلفوا أن شهادة
اليهود والنصارى حق ، فحلفوا ، فأمرهم
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أن يأخذوا من المسلمين ما شهد به اليهودي والنصراني ، وذلك في خلافة
عثمان رضي الله عنه .
فهذه شهادة للميت على وصيته ، وقد قضى بها
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، مع يمين الورثة ، لأنهم المدعون ، والشهادة على الميت لا تفتقر إلى يمين الورثة .
ولعل
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أخذ هذا من جهة أن الورثة يستحقون بأيمانهم على الشاهدين إذا استحقا إثما ، فكذلك يستحقون على الوصية مع شهادة الذميين بطريق الأولى .
وقد ذكر القاضي هذا في مسألة دعوى الأسير إسلاما ، فقال : وقد قال الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد في
السبي إذا ادعوا نسبا ، وأقاموا بينة من الكفار : قبلت شهادتهم ، نص عليه في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=15772حنبل ،
وصالح ،
وإسحاق بن إبراهيم ، لأنه قد تتعذر البينة العادلة ، ولم يجز ذلك في رواية
عبد الله وأبي طالب .
قال
شيخنا رحمه الله تعالى : فعلى هذا كل موضع ضرورة غير المنصوص فيه : فيه روايتان ، لكن التحليف هاهنا لم يتعرضوا له ، فيمكن أن يقال : لأنه إنما يحلف حيث تكون شهادتهم بدلا ، كما في مسألة الوصية ، بخلاف ما إذا كانوا أصولا ، والله أعلم .