غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في فوائد غض البصر .

فإذا علمت ما ذكرنا لك ، وتحققت عظم ما جمعناه ، وفخامة قدر ما نالك ، فلنذكر الكلام على فوائد غض الطرف ، وآفاته وأحكامه ونكباته في مقامات :

( المقام الأول ) في فوائد غض البصر ( إحداها ) تخليص القلب من الحسرة فإن من أطلق نظره دامت حسرته ، فأضر شيء على القلب إرسال البصر ، فإنه يريه ما لا سبيل إلى وصوله ولا صبر له عنه ، وذلك غاية الألم .

قال الفرزدق :

تزود منها نظرة لم تدع له فؤادا ولم يشعر بما قد تزودا     فلم أر مقتولا ولم أر قاتلا
بغير سلاح مثلها حين أقصدا

وقال آخر :

ومن كان يؤتى من عدو وحاسد     فإني من عيني أتيت ومن قلبي
هما اعتوراني نظرة ثم فكرة     فما أبقيا لي من رقاد ولا لب

وقال ابن المعتز :

متيم يرعى نجوم الدجى     يبكي عليه رحمة عاذله
عيني أشاطت بدمي في الهوى     فابكوا قتيلا بعضه قاتله

ولابن القيم :

ألم أقل لك لا تسرق ملاحظه     فسارق اللحظ لا ينجو من الدرك
نصبت طرفي له لما بدا شركا     فكان قلبي أولى منه بالشرك

[ ص: 88 ] الثانية ) : أن غض الطرف يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح ، كما أن إطلاق البصر يورث ذلك ظلمة وكآبة . قال ابن القيم في كتابه روضة المحبين ونزهة المشتاقين لما ذكر هذه الفائدة . ولهذا والله أعلم ذكر سبحانه آية النور في قوله { الله نور السموات والأرض } عقب قوله : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } وتقدم حديث { النظر سهم مسموم من سهام إبليس } وفي بعض رواياته { فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه نورا } .

( الثالثة ) أنه يورث صحة الفراسة فإنها من النور وثمراته ، فإذا استنار القلب صحت الفراسة ، فإنه يصير بمنزلة المرآة المجلوة تظهر فيها المعلومات كما هي ، والنظر بمنزلة التنفس فيها ، فإذا أطلق العبد نظره تنفست الصعداء في مرآة قلبه فطمست نورها كما قيل في ذلك :

مرآة قلبك لا تريك صلاحه     والنفس فيها دائما تتنفس

وقال شجاع الكرماني رحمه الله تعالى : من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات وأكل من الحلال ، لم تخطئ فراسته . وكان شجاعا لا تخطئ له فراسة فإن الله سبحانه يجزي العبد من جنس عمله ، فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه إطلاق نور بصيرته ، فلما حبس بصره له تعالى ، أطلق له بصيرته جزاء وفاقا .

( الرابعة ) أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه ، ويسهل عليه أسبابه وذلك سبب نور القلب ، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات ، وانكشف له بسرعة ، ونفذ من بعضها إلى بعض . ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه ، وأظلم ، وانسد عليه باب العلم وأحجم .

( الخامسة ) أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته ، فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة . وفي أثر أن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ، ولذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما جعله الله لمؤثر هواه على رضاه ، بخلاف من آثر رضا مولاه على هواه ، فإنه في عز الطاعة وحصن التقوى ، بخلاف أهل المعاصي [ ص: 89 ] والأهواء .

قال الحسن : إنهم وإن هملجت بهم البغال ، وطقطقت بهم البراذين ، فإن ذل المعصية لفي قلوبهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه . وقال بعض المشايخ : الناس يطلبون العز في أبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله ، فمن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ، ومن عصاه عاداه فيما عصاه فيه . وفي دعاء القنوت : إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت .

( السادسة ) أنه يورث القلب سرورا وفرحة أعظم من الالتذاذ بالنظر ، وذلك لقهره عدوه وقمعه شهوته ونصرته على نفسه ، فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله تعالى وفيهما مضرة نفسه الأمارة بالسوء ، أعاضه الله سبحانه مسرة ولذة أكمل منهما ، كما قال بعضهم : والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب . ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحا وسرورا ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما . وهنا يمتاز العقل من الهوى .

( السابعة ) أنه يخلص القلب من أسر الشهوة ، فلا أسر أشد من أسر الشهوة والهوى ، قد سلب الحول والقوة ، وعز عليه الدواء ، فهو كما قيل :

كعصفورة في كف طفل يسومها     حياض الردى والطفل يلهو ويلعب

( الثامنة ) أنه يسد عنه بابا من أبواب جهنم ، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل ، وتحريم الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول ، فمتى هتك الحجاب تجرأ على المحظور ، ولم تقف نفسه منه عند غاية ، لأن النفس في هذا الباب لا تقنع بغاية تقف عندها ، وذلك أن لذته في الشيء الجديد . فصاحب الطارف لا يقنعه التليد ، وإن كان أحسن منه منظرا أو أطيب مخبرا . فغض البصر يسد عنه هذا الباب ، الذي عجزت الملوك عن استيفاء أغراضهم فيه ، وفيه غضب رب الأرباب .

( التاسعة ) أنه يقوي عقله ويثبته ويزيده ، فإرسال البصر لا يحصل إلا من قلة في العقل ، وطيش في اللب ، وخور في القلب ، وعدم ملاحظة للعواقب ، فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب ، ومرسل الطرف لو علم ما تجني عواقب طرفه عليه لما أطلق بصره ، ولذا قال بعضهم :

وأعقل الناس من لم يرتكب سببا     حتى يفكر ما تجني عواقبه

[ ص: 90 ] العاشرة ) أنه يخلص القلب من سكرة الشهوة ورقدة الغفلة ، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة ، ويوقع في سكرة العشق ، كما قال تعالى في عشاق الصور { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } فالنظرة كأس من خمر ، والعشق سكر ذلك الشراب . وآفات العشق تكاد تقارب الشرك ، فإن العشق يتعبد القلب الذي هو بيت الرب للمعشوق .

وفوائد غض البصر وآفات إطلاقه أكثر من أن تذكر ، وفيما ذكرنا كفاية . وقد علمت الفوائد والآفات في ضمنها ، فما من فائدة إلا تركها آفة ومفسدة . وقال المروذي : قلت لأحمد رضي الله عنه : الرجل ينظر إلى المملوكة ؟ قال أخاف عليه الفتنة ، كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الشيطان من الرجل في ثلاثة : في بصره وقلبه وذكره ، وهو من المرأة في ثلاثة : في بصرها وقلبها وعجزها . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية