غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : الرضا يثاب عليه ويزيد في الرزق .

( وارض ) أنت ( بقسمه ) لك فإنه حكيم عليم ، والحكيم يضع الأشياء في مواضعها .

فمن عباده من لم يصلحه إلا الفقر ولو أغناه لفسد عليه دينه ، ومنهم من لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقره لفسد عليه دينه ، وكذلك الصحة والسقم ونفوذ الكلمة وعدمه وغير ذلك ، فمهما قسمه لك من ذلك فكن به راضيا مطمئنا لا ساخطا ولا متلونا ، فإنه جل شأنه أشفق من الوالدة على ولدها .

ومن تمام حكمته وبديع قدرته أن جعل عباده ما بين غني وفقير ، وجليل وحقير ، وصغير وكبير ، ومستأجر وأجير ، ذلك تقدير العليم الخبير ، فإن سخطت شيئا من أقداره أهلكت نفسك وقطعتها حسرات على الدنيا ، ولم تنل منها إلا ما قسمه لك جل شأنه ، وإن ترض بقسمته لك من جميع الأشياء ( تثب ) ثواب الراضين على ذلك ، ويحصل لك الرضا الموعود به في قوله في الحديث { فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فعليه السخط } وتثبت لك حقيقة العبودية وتسلم من الإباق المتوعد به في قوله كما في بعض الأخبار القدسية { من لم يرض بقضائي ويصبر على بلائي فليعبد ربا سواي } .

قال في الفروع : وكان المروذي مع الإمام أحمد في العسكر في قصر فأشار إلى شيء على الجدار قد نصب ، فقال له أحمد : لا تنظر إليه ، قال قلت : فقد نظرت إليه ، قال : فلا تفعل .

قال وسمعته يقول : تفكرت في هذه الآية { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } ثم تفكرت في وفيهم وأشار نحو العسكر قال { ورزق ربك خير وأبقى } ، قال : رزق يوم بيوم خير .

قال : ولا تهتم لرزق غد . انتهى .

[ ص: 279 ] فإن فعلت كذلك ( و ) رضت نفسك على هذه الأخلاق ( تزد رزقا ) من الله سبحانه وتعالى فإنه يرزق عباده سيما الذين انسلخوا عن الحول والقوة ، وطرحوا على أبواب الرجاء والمنة ، فهم عليه متوكلون ، وإليه متضرعون ، وعلى أبوابه واقفون ، ولمنحه منتظرون ، فإن كنت منهم تزد رزقا ( و ) تزد ( إرغام ) أي ذل وبتك وإهانة ( حسد ) جمع حاسد .

وأصل الرغام التراب ، كأنك لشرف نفسك ورضاك بقسمة مولاك جعلت أنوف أعدائك ملصقة بالتراب ، والحاسد عدو نعم الله تعالى لأنه يطلب زوالها ممن نالها ، وهو من إساءة الأدب على غاية ، ولذا قيل شعر :

ألا قل لمن كان لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب


أسأت على الله في حكمه     لأنك لم ترض ما قد وهب


فجازاك ربي بأن زادني     وسد عليك وجوه الطلب

( تنبيه ) : قد تضمن بيت الناظم ثلاثة أشياء : الشكر ، والرضا ، وإرغام أهل الحسد ، وفي ضمن ذلك ذم الحسود .

فأما الرضا فهو من أعمال القلوب ، وهو إن كان كذلك فكماله هو الحمد ، حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا ، ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمد الله على كل حال ، وذلك يتضمن الرضا بقضائه .

والرضا بالمصائب أشق على النفوس من الصبر ، وإن كان الصبر من أشق الأشياء على النفوس .

وفي جامع الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا أحب الله قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط } .

مطلب : الرضا بالقضاء هل هو واجب أو مستحب ؟

وقد تنازع علماؤنا وغيرهم الرضا بالقضاء ، هل هو واجب أو مستحب على قولين :

فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين .

وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين .

ذكره شيخ الإسلام رضي الله عنه .

فالعبد قد يصبر على المصيبة ، ولا يرضى .

فالرضا أعلى مقام الصبر ، لكن الصبر اتفقوا على وجوبه ، والرضا اختلفوا في وجوبه ، والشكر أعلى من [ ص: 280 ] مقام الرضا ، فإنه يشهد المصيبة نعمة ، والمحنة منحة فيشكر المبلي عليها .

قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : أما الرضا فمنزلة عزيزة أو منيعة ، ولكن قد جعل الله في الصبر معولا حسنا .

وقال عبد الواحد بن زيد : الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، وسراج العابدين .

وقد روى ابن أبي الدنيا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { الصبر رضا } فهذا الحديث فيه بشارة عظيمة لأهل المصائب ; إذ سمى الصبر رضا ، ولعله مراد الناظم .

فإن قيل : غالب الناس يصبرون ولا يرضون ، فكيف يتصور الرضا بالمكروه ؟ فالجواب أن نفور الطبع عن المكروه لا ينافي رضا القلب بالمقدور ، فإنا نرضى عن الله ونرضى بقضائه وإن كرهنا المقضي .

وفي صيد الخاطر للإمام الحافظ ابن الجوزي طيب الله ثراه : الرضا من جملة ثمرات المعرفة ، فإذا عرفته رضيت بقضائه ، وقد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي ، وأما العارف فتقل عنده المرارة لقوة حلاوة المعرفة ، فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة صارت مرارة الأقدار حلاوة كما قال القائل :

عذابه فيك عذب     وبعده فيك قرب


وأنت عندي كروحي     بل أنت منها أحب


حسبي من الحب أني     لما تحب أحب

وقال بعض المحبين في هذا المعنى :

ويقبح من سواك الفعل عندي     فتفعله فيحسن منك ذاكا

فإن قيل : بماذا أرضى قدر ربي ، أرضى في أقداره بالمرض والفقر ، أفأرضى بالكسل عن خدمته والبعد عن أهل الجنة ، فبين لي ما الذي يدخل تحت الرضا مما لا يدخل ؟ فقلت له : نعم ما سألت فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع وهو شهيد .

ارض بما منه .

فأما الكسل والتخلف فذاك منسوب إليك فلا ترض به من فعلك ، وكن مستوفيا حقه عليك مناقشا نفسك فيما يقربك منه غير [ ص: 281 ] راض عنها بالتواني في المجاهدة .

فأما ما يقدره من الأفضلية المجردة التي لا كسب لك فيها فكن راضيا بها . انتهى .

ملخصا والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية