مطلب : في رد قول من قال ما فائدة الإعدام بعد الإيجاد والابتلاء ممن هو غني عن أذانا .
وقال في موضع آخر : رأيت كثيرا من المتغفلين يظهر عليهم السخط بالأقدار وفيهم من قل إيمانه فأخذ يعترض ، وفيهم من خرج إلى الكفر ، ورأى أن ما يجري كالعبث ، وقال ما
فائدة الإعدام بعد الإيجاد . والابتلاء ممن هو غني عن أذانا . فقلت لبعض من كان يرمز إلى هذا : إن حضر عقلك وقلبك حدثتك . وإن كنت تتكلم بمجرد واقعتك من غير نظر ولا إنصاف فالحديث معك ضائع . ويحك أحضر عقلك واسمع ما أقول :
أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك وللمالك أن يتصرف كيف شاء . أليس قد ثبت أنه حكيم والحكيم لا يعبث . وأنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئا ، فإنه قد سمعنا عن
جالينوس أنه قال ما أدري أحكيم هو أم لا . والسبب في قول هذا أنه رأى نقضا بعد إحكام . فقاس الحال على أحوال الخلق . وهو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى فليس بحكيم . وجوابه لو كان حاضرا أن يقال بماذا بان لك أن النقض ليس بحكمة . أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك وكيف يهب لك الذهن الكامل ويفوته هو الكمال . وهذه المحنة التي جرت لإبليس فإنه أخذ بعيب الحكمة بعقله . فلو تفكر علم أن واهب العقل أعلى من العقل . وأن حكمته أوفى من كل حكيم ; لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول . فهذا إذا تأمله المنصف زال عنه الشك .
وقد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى {
أم له البنات ولكم البنون } أي جعل لنفسه الناقصات وأعطاكم الكاملين . فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى
[ ص: 563 ] أنفسنا .
ونقول هذا فعل عالم حكيم ، ولكن ما تبين لنا معناه . وليس هذا بعجب . فإن
موسى عليه السلام خفي عليه وجه الحكمة في نقض السفينة الصحيحة وقتل الغلام الجميل ، فلما بين له
الخضر وجه الحكمة أذعن .
فلنكن مع الخالق
موسى مع
الخضر . ألسنا نرى المائدة المستحسنة بما عليها من فنون الطعام النظيف الظريف يقطع ويمضغ ولا ينكر الإفساد له ، لعلمنا بالمصلحة الباطنة فيه ، فما المانع أن يكون فعل الحق سبحانه له باطن لا نعلمه . ومن أجهل الجهال العبد المملوك إذا طلب أن يطلع على سر مولاه ، فإن فرضه التسليم لا الاعتراض . ولو لم يكن في الابتلاء بما تنكره الطباع إلا أن يقصد إذعان العقل وتسليمه لكفى .
قال : ولقد تأملت حالة عجيبة يجوز أن يكون المقصود بالموت هي ، وذلك أن الخالق سبحانه في غيب لا يدركه الإحساس ، فلو أنه لم ينقض هذه البنية لتخايل الإنسان أنه صنع لا يصانع فإذا وقع الموت عرفت النفس نفسها التي كانت لا تعرفها لكونها في الجسد ، وتدرك عجائب الأمور بعد رحيلها ، فإذا ردت إلى البدن عرفت ضرورة أنها مخلوقة لمن أعادها ، وتذكرت حالها في الدنيا ، فإن الأذكار تعاد كما تعاد الأبدان ، فيقول قائلهم {
إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } . ومتى رأت ما قد وعدت به من أمور الآخرة ، أيقنت يقينا لا شك معه ، ولا يحصل هذا بإعادة ميت سواها ، وإنما يحصل برؤية هذا الأمر فيها ، فيبني بنية تقبل البقاء ، ويسكن جنة لا ينقضي دوامها .
فيصلح بذلك اليقين أن تجاور الحق ; لأنها آمنت بما وعد ، وصبرت بما ابتلى ، وسلمت لأقداره فلم تعترض ، ورأت في غيرها العبر ثم في نفسها ، فهذه هي التي يقال لها {
ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } . فأما
الشاك والكافر فيحق لهما الدخول إلى النار واللبث فيها ; لأنهما رأيا الأدلة ولم يستفيدا ، ونازعا الحكيم واعترضا عليه ، فلما لم ينتفع بالدليل في الدنيا لم ينتفع بالموت والإعادة .
ودليل بقاء الخبث في القلوب قوله تعالى {
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } .
فنسأل الله عز وجل عقلا مسلما يقف على حده ، ولا يعترض على خالقه
[ ص: 564 ] ثم الويل للمعترض أيرد اعتراضه الأقدار .
فما يستفيد إلا الخزي ، نعوذ بالله من الخذلان .