الآية السابعة عشرة قوله تعالى : {
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } . فيها تسع مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية نزلت في المرتدين ، وقد تقدم ذكر بعض من أحكام الردة في سورة المائدة ، وبينا أن الكفر بالله كبيرة محبطة للعمل ، سواء تقدمها إيمان أو لم يتقدم ، والكافر أو المرتد هو الذي جرى بالكفر لسانه ، مخبرا عما انشرح به من الكفر صدره ، فعليه من الله الغضب ، وله العذاب الأليم ، إلا من أكره ، وهي :
[ ص: 160 ]
المسألة الثانية : فذكر استثناء من
تكلم بالكفر بلسانه عن إكراه ، ولم يعقد على ذلك قلبه ، فإنه خارج عن هذا الحكم ، معذور في الدنيا ، مغفور في الأخرى . والمكره : هو الذي لم يخل وتصريف إرادته في متعلقاتها المحتملة لها ، فهو مختار ، بمعنى أنه بقي له في مجال إرادته ما يتعلق به على البدل ، وهو مكره بمعنى أنه حذف له من متعلقات الإرادة ما كان تصرفها يجري عليه قبل الإكراه ، وسبب حذفها قول أو فعل ; فالقول هو التهديد ، والفعل هو أخذ المال ، أو الضرب ، أو السجن ، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في سورة
يوسف .
وقد اختلف الناس في
التهديد ، هل هو إكراه أم لا ؟ والصحيح أنه إكراه ; فإن القادر الظالم إذا قال لرجل : إن لم تفعل كذا وإلا قتلتك ، أو ضربتك ، أو أخذت مالك ، أو سجنتك ، ولم يكن له من يحميه إلا الله ، فله أن يقدم على الفعل ، ويسقط عنه الإثم في الجملة ، إلا في القتل ، فلا خلاف بين الأمة أنه إذا أكره عليه بالقتل أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره ; ويلزمه أن يصبر على البلاء الذي ينزل به ، ونسأل الله العافية في الدنيا والآخرة .
واختلف في الزنا ، والصحيح أنه يجوز له الإقدام عليه ، ولا حد عليه ، خلافا
لابن الماجشون ، فإنه ألزمه الحد ; لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور عليها إكراه ، ولكنه غفل عن السبب في باعث الشهوة ، وأنه باطل . وإنما وجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري ، فقاس الشيء على ضده ، فلم يحل بصواب من عنده .
وأما الكفر بالله فذلك جائز له بغير خلاف على شرط أن يلفظ بلسانه ، وقلبه منشرح بالإيمان ، فإن ساعد قلبه في الكفر لسانه كان آثما كافرا ; لأن الإكراه لا سلطان له في الباطن ، وإنما سلطته على الظاهر ; بل قد قال المحققون من علمائنا : إنه
[ ص: 161 ] إذا تلفظ بالكفر أنه لا يجوز له أن يجري على لسانه إلا جريان المعاريض ، ومتى لم يكن كذلك كان كافرا أيضا . وهو الصحيح ; فإن المعاريض أيضا لا سلطان للإكراه عليها ، مثاله أن يقال له : اكفر بالله ، فيقول : أنا كافر بالله ، يريد باللاهي ، ويحذف الياء كما تحذف من الغازي والقاضي والرامي ، فيقال : الغاز والقاض ذرة .
وكذلك إذا
قيل له : اكفر بالنبي ، فيقول : هو كافر بالنبي ، وهو يريد بالنبي المكان المرتفع من الأرض .
فإن قيل له : اكفر بالنبيء مهموزا ، يقول : أنا كافر بالنبيء بالهمز ، ويريد به المخبر أي مخبر كان ، أو يريد به النبيء الذي قال فيه الشاعر :
فأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبيء من الكاثب
ولذلك يحكى عن بعض العلماء من زمن فتنة
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل على خلق القرآن أنه دعي إلى أن يقول بخلق القرآن ، فقال : القرآن والتوراة والإنجيل والزبور يعددهن بيده هذه الأربعة مخلوقة ، يقصد هو بقلبه أصابعه التي عدد بها ، وفهم الذي أكرهه أنه يريد الكتب الأربعة المنزلة من الله على أنبيائه ، فخلص في نفسه ، ولم يضره فهم الذي أكرهه .
ولما كان هذا أمرا متفقا عليه عند الأئمة ، مشهورا عند العلماء ألف في ذلك شيخ اللغة ورئيسها
أبو بكر بن دريد كتاب الملاحن للمكرهين ، فجاء ببدع في العالمين ، ثم ركب عليه المفجع الكابت ، فجمع في ذلك مجموعا وافرا حسنا ، استولى فيه على الأمد ، وقرطس الغرض .
المسألة الثالثة : هذا يدل على أن الكفر ليس بقبيح لعينه وذاته ; إذ كان كذلك لما حسنه الإكراه ، ولكن الأمر كما قال علماؤنا من
أهل السنة أن الأشياء لا تقبح لذواتها ولا تحسن لذواتها ; وإنما تقبح وتحسن بالشرع ; فالقبيح ما نهى الشرع عنه ، والحسن ما أمر الشرع به .
[ ص: 162 ] والدليل على صحة ذلك أن القتل الواقع اعتداء يماثل القتل المستوفى قصاصا في الصورة والصفة ، بدليل أن الغافل عن سببهما لا يفرق بينهما ، وكذلك الإيلاج في الفرج عن نكاح ، يماثل الإيلاج عن سفاح في اللذات والحركات ، إنما فرق بينهما الإذن ; وكذلك الكفر الذي يصدر عن الإكراه يماثل الصادر عن الاختيار ; ولكن فرق بينهما إذن الشرع في أحدهما وحجره في الآخر ، وقد أحكمنا ذلك في كتب الأصول .
المسألة الرابعة : إن الكفر وإن كان بالإكراه جائزا عند العلماء فإن من صبر على البلاء ولم يفتتن حتى قتل فإنه شهيد ، ولا خلاف في ذلك ، وعليه تدل آثار الشريعة التي يطول سردها ، وإنما وقع الإذن وخصه من الله رفقا بالخلق ، وإبقاء عليهم ، ولما في هذه الشريعة من السماحة ، ونفي الحرج ، ووضع الإصر .