الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى : {
الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } .
هذه آية عظيمة قد بيناها في كتاب المشكلين ، وفي قانون التأويل ، وأوضحنا المراد منها على أقوال العلماء ; وهذا الحرف منها ذكره بعض الأحكاميين ، فرأينا ألا نخلي هذا المختصر منه . واختلف في هذه الشجرة على ستة أقوال :
الأول : أنها ليست من شجر الشرق دون الغرب ، ولا من شجر الغرب دون الشرق ; لأن الذي يختص بإحدى الجهتين كان أدنى زيتا ، وأضعف ضوءا . ولكنها ما بين الشرق والغرب ،
كالشام ; لاجتماع الأمرين فيه ; وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك .
وفي رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16472ابن وهب عنه قال : هو
الشام ، الشرق من هاهنا والغرب من هاهنا ، ورأيته
لابن شجرة أحد حذاق المفسرين .
الثاني : أنها ليست بشرقية تستر عن الشمس عند الغروب ، ولا بغربية تستر عن الشمس وقت الطلوع ; بل هي بارزة ; وذلك أحسن لزيتها أيضا ; قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة .
[ ص: 404 ]
الثالث : أنها وسط الشجر ، لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت ، وذلك أجود لزيتها : قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16574عطية .
الرابع : أنها ليس في شجر الشرق ولا في شجر الغرب مثلها قاله
nindex.php?page=showalam&ids=17317يحيى بن سلام .
الخامس : أنها من شجر الجنة لا من الدنيا قاله
الحسن .
السادس : أنها مؤمنة ، ليست بنصرانية تصلي إلى الشرق ، ولا يهودية تصلي إلى الغرب ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر .
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رضي الله عنه : لا خلاف بين المحققين الذين ينزلون التفسير منازله ، ويضعون التأويل مواضعه من غير إفراط ولا تفريط ، أن هذا مثل ضربه الله لنوره ، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض خلقه ; لأن الخلق بقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم ، ولولا ذلك ما عرف الله إلا الله وحده ، وأنور المصابيح في الدنيا مصباح يوقد من دهن الزيتون ، ولا سيما إذا كانت مفردة قد تباعد عنها الشجر فخلصت من الكل ، وأخذتها الشمس من كل جانب ، فذلك أصفى لنورها ، وأطيب لزيتها ، وأنضر لأغصانها ، وذلك معنى بركة هذه الشجرة التي فهمها الناس حتى استعملوها في أشعارهم ، فقالوا :
بورك الميت الغريب كما بورك نضر الرمان والزيتون
وقد رأيت في
المسجد الأقصى زيتونة كانت بين محراب
زكريا وبين باب التوبة والرحمة الذي يقولون : إنه المراد بقوله : باب باطنه فيه الرحمة يعني
المسجد الأقصى ، وظاهره من قبله العذاب بشرقيه دون السور ، وادي جهنم ، وفوقه أرض المحشر التي تسمى بالساهرة ، فكانوا يقولون : إنها الشجرة المذكورة في هذه الآية . وربك أعلم .
ومن غريب الأثر أن بعض علمائنا الفقهاء قال : إن هذا مثل ضربه الله
لإبراهيم ،
ومحمد ،
ولعبد المطلب ، وابنه
عبد الله ، فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة ، فشبه
عبد المطلب بالكوة فيها القنديل ، وهو الزجاجة ، وشبه
عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة ،
ومحمد كالمصباح يعني من أصلابهما ، وكأنه كوكب دري وهو المشترى ، يوقد من
[ ص: 405 ] شجرة مباركة يعني إرث النبوة ، من
إبراهيم ، وهو الشجر المباركة ، يعني حنيفة لا شرقية ولا غربية ، لا يهودية ولا نصرانية ، يكاد زيتها يضيء ، ولو لم تمسسه نار .
يقول : يكاد
إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحى إليه ، نور على نور
إبراهيم ثم
محمد .
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رحمه الله : وهذا كله عدول عن الظاهر ، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه ، ولكن على الطريقة التي شرعناها في قانون التأويل لا على الاسترسال المطلق الذي يخرج الأمر عن بابه ، ويحمل على اللفظ ما لا يطيقه ، فمن أراد الخبرة به والشفاء من دائه فلينظر هنالك .