المسألة الرابعة التمثال على قسمين حيوان وموات ، والموات على قسمين : جماد ونام ، وقد كانت الجن تصنع
لسليمان جميعه ، وذلك معلوم من طريقين : أحدهما عموم قوله : {
تماثيل } . والثاني ما روي من طرق عديدة ، أصلها الإسرائليات ; لأن التماثيل من الطير كانت على كرسي
سليمان .
[ ص: 8 ]
فإن قيل : لا عموم لقوله : {
تماثيل } فإنه إثبات في نكرة ، والإثبات في النكرة لا عموم له ; إنما العموم في النفي في النكرة حسبما قررتموه في الأصول .
قلنا : كذلك نقول ، بيد أنه قد اقترن بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم ، وهو قوله : {
ما يشاء } فاقتران المشيئة به يقتضي العموم له .
فإن قيل : فكيف شاء
عمل الصور المنهي عنها ؟ قلنا : لم يرد أنه كان منهيا عنها في شرعه ، بل ورد على ألسنة
أهل الكتاب أنه كان أمرا مأذونا فيه ، والذي أوجب النهي عنه في شرعنا والله أعلم ما كانت
العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام ، فكانوا يصورون ويعبدون ، فقطع الله الذريعة وحمى الباب .
فإن قيل : فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي عليه السلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36746من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ } . وفي رواية : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14242الذين يشبهون بخلق الله } ; فعلل بغير ما زعمتم .
قلنا : نهي عن الصورة ، وذكر علة التشبيه بخلق الله ، وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله ، فنبه على أن نفس عملها معصية ، فما ظنك بعبادتها ، وقد ورد في كتب التفسير شأن يغوث ويعوق ونسرا ، وأنهم كانوا أناسا ، ثم صوروا بعد موتهم وعبدوا . وقد شاهدت بثغر
الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوروه من خشب في أحسن صورة ، وأجلسوه في موضعه من بيته وكسوه بزته إن كان رجلا وحليتها إن كانت امرأة ، وأغلقوا عليه الباب .
فإذا أصاب أحدا منهم كرب أو تجدد له مكروه فتح الباب [ عليه ] وجلس عنده يبكي ويناجيه بكان وكان حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه ، ثم يغلق الباب عليه وينصرف عنه ، وإن تمادى بهم الزمان يعبدوها من جملة الأصنام والأوثان ، فعلى هذا التأويل إن قلنا :
[ ص: 9 ] إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا فليس ينقل عن ذلك حكم . وإن قلنا : إن
شرع من قبلنا شرع لنا فيكون نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور نسخا ، وهي : المسألة الخامسة على ما بيناه في قسم الناسخ والمنسوخ قبل هذا .
وإن قلنا : إن الذي كان يصنع له الصور المباحة من غير الحيوان وصورته فشرعنا وشرعه واحد .
وإن قلنا : إن الذي حرم عليه ما كان شخصا لا ما كان رقما في ثوب فقد اختلفت الأحاديث في ذلك اختلافا متباينا بيناه في شرح الحديث ، لبابه أن أمهات الأحاديث خمس أمهات : الأم الأولى ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس أن أصحاب الصور يعذبون ، أو هم أشد الناس عذابا . وهذا عام في كل صورة .
الأم الثانية روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=86أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=30140لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة } زاد
زيد بن خالد الجهني : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10769إلا ما كان رقما في ثوب } وفي رواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=86أبي طلحة نحوه ، فقلت
nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة : هل سمعت هذا ؟ فقالت : لا ; وسأحدثكم ; {
nindex.php?page=hadith&LINKID=18324خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأخذت نمطا فنشرته على الباب ، فلما قدم ورأى النمط عرفت الكراهة في وجهه ، فجذبه حتى هتكه ، وقال : إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين . قالت : فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفا فلم يعب ذلك علي } .
الأم الثالثة قالت
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=28096كان لنا ستر فيه تمثال طائر ، وكان الداخل إذا دخل استقبله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حولي هذا فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا } .
الأم الرابعة روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة قالت : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=18760دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه ، ثم قال : إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله . قالت nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة : فقطعته ، فجعلت منه وسادتين } .
[ ص: 10 ]
الأم الخامسة قالت
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=28095كان لنا ثوب ممدود على سهوة فيها تصاوير ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه ، ثم قال : أخريه عني ، فجعلت منه وسادتين ; فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتفق بهما } . وفي رواية في حديث النمرقة قالت : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10885اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها ; فقال : إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، وإن الملائكة لا يدخلون بيتا فيه صورة } .
قال
القاضي : فتبين بهذه الأحاديث أن الصور ممنوعة على العموم ، ثم جاء : إلا ما كان رقما في ثوب ، فخص من جملة الصور ، ثم بقول النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة في الثوب المصور : أخريه عني ; فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا فثبتت الكراهة فيه . ثم بهتك النبي صلى الله عليه وسلم الثوب المصور على
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة منع منه ، ثم بقطعها لها وسادتين حتى تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها بأن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة ، ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز لقولها في النمرقة المصورة : اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها ، فمنع منه وتوعد عليه ، وتبين بحديث
الصلاة إلى الصورة أن ذلك كان جائزا [ في الرقم ] في الثوب ، ثم نسخه المنع ، فهكذا استقر فيه الأمر . والله أعلم .