صفحة جزء
المسألة الثانية قوله : " هي " نزع بذلك كثير من العلماء إلى أنها في ليلة سبع وعشرين ; لأنهم عدوا حروف السورة ، فلما بلغوا إلى قولهم : ( هي ) وجدوها سبعة وعشرين حرفا ، فحكموا عليه بها ، وهو أمر بين ، وعلى النظر بعد التفطن له هين ، ولا يهتدي له إلا من كان صادق الفكر ، شديد العبرة ، وقد أشبعت القول في هذه المسألة [ ص: 373 ] في كتاب شرح الصحيحين . ولبابه اللائق بالأحكام أن العلماء اختلفوا في تحريرها على ثلاثة عشر قولا : الأول أنها في العام كله . سئل ابن مسعود عن ليلة القدر ; فقال : من يقم الحول يصب ليلة القدر .

الثاني أنها في شهر رمضان دون سائر شهور العام ; قاله سائر الأئمة عدا ما سميناه .

الثالث : أنها ليلة سبع عشرة من الشهر ; قاله عبد الله بن الزبير .

الرابع أنها ليلة إحدى وعشرين .

الخامس أنها ليلة ثلاث وعشرين .

السادس أنها ليلة خمس وعشرين .

السابع أنها ليلة سبع وعشرين .

الثامن أنها ليلة تسع وعشرين .

التاسع أنها في الأشفاع للأفراد الخمسة ; فإذا أضفتها إلى الثمانية الأقوال اجتمع فيها ثلاثة عشر قولا ، أصولها هذه التسعة التي أشرنا إليها .

توجيه الأقوال وأدلتها : أما قول ابن مسعود إنها في العام كله ، فنزع إلى أنها موجودة شرعا ، مخبر عنها قطعا ولم يتعين لتوقيتها دليل ، فبقيت مترقبة في الزمان كله ، وقد رآه ابن مسعود مع فقهه في كتاب الله وعلمه به .

وأما من قال : إنها في شهر رمضان فلأن { النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول يطلبها ، واعتكف العشر الأواخر } ، ولو كانت مخصصة بجزء منه ما تقلب في جميعه يطلبها فيه .

وأما من قال : إنها ليلة سبع عشرة فإن عبد الله بن الزبير نزع بقوله تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } وكان ذلك ليلة سبع عشرة .

وأما قول من قال : إنها إحدى وعشرين فمعوله على حديث أبي سعيد الخدري [ ص: 374 ] قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاوز العشر التي في أول الشهر ، ثم اعتكف العشر الأواسط في قبة تركية على سدتها حصير ، ثم قال : إني أوتيت ، وقيل لي : إنها في العشر الأواخر ، وإني رأيتها ليلة وتر ، وكأني أسجد صبيحتها في ماء وطين . فأصبح من ليلة إحدى وعشرين ، وقد صلى الصبح ، فمطرت السماء ، ووكف المسجد ; فخرج حين فرغ من صلاة الصبح ، وجبينه وأرنبة أنفه فيهما أثر الطين والماء } .

وأما من قال : إنها ليلة ثلاثة وعشرين فلوجهين : أحدهما { أن عبد الله بن أنيس قال للنبي صلى الله عليه وسلم : مرني بليلة أنزل فيها إليك . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : انزل ليلة ثلاث وعشرين } .

وفي صحيح مسلم { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين . قال عبد الله بن أنيس : فرأيته في صبيحة ثلاث وعشرين سجد في الماء والطين ، كما أخبر صلى الله عليه وسلم } .

وأما من قال : إنها ليلة خمس وعشرين ; ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : التمسوها في العشر الأواخر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى ، وفي خامسة تبقى } ، زاد النسائي على مسلم { أو ثلث آخر ليلة } .

وأما من قال : إنها ليلة سبع وعشرين فاحتج بالحديث الصحيح في مسلم عن أبي بن كعب ، { قال زر بن حبيش : سألت أبي بن كعب ، فقلت : إن أخاك ابن مسعود يقول : من يقم الحول يصب ليلة القدر . فقال رحمه الله : أراد ألا يتكل الناس ، أما إنه قد علم أنها في شهر رمضان ، وأنها في العشر الأواخر ، وأنها ليلة سبع وعشرين ، ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين . فقلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ فقال : بالعلامة التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الشمس من صبيحتها أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها } .

وأما من قال : إنها ليلة تسع وعشرين فنزع بحديث النسائي المتقدم . [ ص: 375 ]

وأما من قال : إنها في الأشفاع فنزع بالحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال : { اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط من رمضان ، يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له ، فلما انقضين أمر بالبناء فقوض ، ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر ، فأمر بالبناء فأعيد ، ثم خرج على الناس فقال : يا أيها الناس ; إنه كانت أبينت لي ليلة القدر ، وإني خرجت لأخبركم بها ، فجاء رجلان يختصمان معهما الشيطان ، فنسيتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة } .

قال أبو نضرة راوي الحديث : قلت لأبي سعيد : إنكم أعلم بالعدد منا . قال : أجل ، نحن أحق بذلك منكم . قال : فقلت : فما التاسعة والسابعة والخامسة ؟ قال : إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنتان وعشرون فهي التاسعة ، وإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة ، وإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها وهي الخامسة .

المسألة الثانية في الصحيح فيها وترجيح سبل النظر الموصلة إلى الحق منها : وذلك أنا نقول : إن الله تبارك وتعالى قال : { ليلة القدر خير من ألف شهر } فأفاد هذا بمطلقه ، لو لم يكن كلام سواه أنها في العام كله لقوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر } فأنبأنا أنه أنزله في ليلة من العام .

فقلنا : من يقم الحول يصب ليلة القدر ، ثم نظرنا إلى قوله تعالى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } فأفادنا ذلك أن تلك الليلة هي ليلة من شهر رمضان ; لإخبار الله أن القرآن أنزل فيها ، فقلنا : من يقم شهر رمضان يصب ليلة القدر ، وقد طلبها الرسول صلى الله عليه وسلم في أوله وفي أوسطه وفي آخره رجاء الحصول .

وقال : { من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } ; ولم يعمه بالطلب لما كان يظنه من التخصيص ، ورجاء ألا يشق على أمته ، ثم أنبأه الله بها ، فخرج ليخبر بها فأنسيها لشغله مع المتخاصمين ، لكن بقي له من العلم الذي كان أخبر به أنها في العشر الأواخر ، ثم أخبر في الصحيح أنها في العشر الأواخر . [ وتواطأت روايات الصحابة على أنها في العشر الأواخر ] ، كما قال هو صلى الله عليه وسلم واقتضت رؤياه أنها في العشر الأواخر من طريق أبي سعيد الخدري في ليلة إحدى وعشرين .

[ ومن طريق عبد الله بن أنيس أنها ليلة [ ص: 376 ] ثلاث وعشرين ] ; ثم أنبأ عنها بعلامة ، وهي طلوع الشمس بيضاء لا شعاع لها يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة ، فوجد ذلك الصحابة ليلة سبع وعشرين ، ولم نصلح لرؤية ذلك النور لكثرة ظلمة الذنوب ، فإن رآها أحد من المذنبين فحجة عليه إن مات ونقمة منه إن بقي كما كان ، ثم خص السبع الأواخر من جملة الشهر ، فحث على التماسها فيها ، ثم وجدناها بالرؤيا الحق ليلة إحدى وعشرين في عام ، ثم وجدناها بالرؤيا الصدق في ليلة ثلاث وعشرين في عام ، ثم وجدناها بالعلامة الحق ليلة سبع وعشرين ; فعلمنا أنها تنتقل في الأعوام ، لتعم بركتها من العشر الأواخر جميع الأيام ، وخبأها عن التعيين ليكون ذلك أبرك على الأمة في القيام في طلبها شهرا أو أياما ، فيحصل مع ليلة القدر ثواب غيرها ، كما خبأ الكبائر في الذنوب وساعة الجمعة في اليوم حسبما قدمناه .

فهذه سبل النظر المجتمعة في القرآن والحديث أجمع ، فتبصروها لمما ، واسلكوها أمما إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية