قوله : ( الحلال بين ) إلخ ، فيه تقسيم للأحكام إلى ثلاثة أشياء وهو تقسيم صحيح ، لأن الشيء إما أن ينص الشارع على طلبه مع الوعيد على تركه ، أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله أو لا ينص على واحد منهما ، فالأول : الحلال البين والثاني : الحرام البين ، والثالث : المشتبه لخفائه فلا يدرى أحلال هو أم حرام ؟ وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه ; لأنه إن كان في نفس الأمر حراما فقد برئ من التبعة ، وإن كان حلالا فقد استحق الأجر على الترك لهذا القصد ; لأن الأصل مختلف فيه حظر أو إباحة
وهذا التقسيم قد وافق قول من قال ممن سيأتي إن المباح والمكروه من المشبهات ولكنه يشكل عليه المندوب ، فإنه لا يدخل في قسم الحلال البين على ما زعمه صاحب هذا التقسيم ، والمراد بكون كل واحد من القسمين الأولين بينا أنه مما لا يحتاج إلى بيان أو مما يشترك في معرفته كل أحد وقد يردان جميعا أي : ما يدل على الحل والحرمة ، فإن علم المتأخر منهما فذاك ، وإلا كان ما وردا فيه من القسم الثالث
قوله : ( والمعاصي حمى الله ) في رواية nindex.php?page=showalam&ids=12070للبخاري وغيره { nindex.php?page=hadith&LINKID=119481ألا إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه } والمراد بالمحارم والمعاصي : فعل المنهي المحرم ، أو ترك المأمور الواجب ، والحمى : المحمي أطلق المصدر على المفعول وفي اختصاص التمثيل بالحمى نكتة ، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مخصبة يتوعدون من رعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة ، فمثل لهم النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مشهور عندهم ، فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه فبعده أسلم له ، وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه [ ص: 248 ] فلا يأمن أن يقع فيه بعض مواشيه بغير اختياره ، وربما أجدب المكان الذي هو فيه ويقع الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه ، فالله سبحانه هو الملك حقا وحماه محارمه ، وقد اختلف في حكم الشبهات فقيل : التحريم وهو مردود ، وقيل : الكراهة
وقيل : الوقف وهو كالخلاف فيما قبل الشرع واختلف العلماء أيضا في تفسير الشبهات فمنهم من قال : إنها ما تعارضت فيه الأدلة ومنهم من قال : إنها ما اختلف فيه العلماء وهو منتزع من التفسير الأول ومنهم من قال : إن المراد بها قسم المكروه ; لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك ، ومنهم من قال : هي المباح ونقل ابن المنير عن بعض مشايخه أنه كان يقول : المكروه عقبة بين العبد والحرام ، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام ، والمباح عقبة بينه وبين المكروه ، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه
ويؤيد هذا ما وقع في رواية nindex.php?page=showalam&ids=13053لابن حبان من الزيادة بلفظ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=13169اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال ، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه } قال في الفتح بعد أن ذكر التفاسير للمشتبهات التي قدمناها ما لفظه : والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول ، قال : ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا ، ويختلف ذلك باختلاف الناس ، فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه ، ومن دونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال
ولا يخفى أن المستكثر من المكروه ، تصير فيه جراءة على ارتكاب المنهي في الجملة أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم ، أو يكون ذلك لسر فيه ، وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم " إلخ ، واعلم أن العلماء قد عظموا أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن ابن أبي داود وغيره ، وقد جمعها من قال :
عمدة الدين عندنا كلمات مسندات من قول خير البرية اترك الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية
والمشهور عند أبي داود عد حديث ما { nindex.php?page=hadith&LINKID=34810نهيتكم عنه فاجتنبوه } مكان حديث " ازهد " المذكور وعد حديث الباب بعضهم ثالث ثلاثة وحذف الثاني وأشار nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام قال القرطبي : ; لأنه اشتمل على [ ص: 249 ] التفصيل بين الحلال وغيره وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب ، فمن هناك يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه وقد ادعى nindex.php?page=showalam&ids=12111أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير nindex.php?page=showalam&ids=114النعمان بن بشير فإن من أراد من وجه صحيح فمسلم ، وإن أراد على الإطلاق فمردود ، فإنه في الأوسط nindex.php?page=showalam&ids=14687للطبراني من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=56وعمار ، وفي الكبير له من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وفي الترغيب للأصبهاني ، من حديث واثلة ، وفي أسانيدها مقال كما قال الحافظ