[ ص: 221 ] قوله تعالى :
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى :
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع . وقد اختلف من المخاطب بها ؛ فقال
علي بن أبي طالب وزيد بن أسلم nindex.php?page=showalam&ids=16128وشهر بن حوشب وابن زيد : هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة ، فهي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه ، ثم تتناول من بعدهم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج وغيره : ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح
الكعبة حين أخذه من
عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري من
بني عبد الدار ومن ابن عمه
nindex.php?page=showalam&ids=4137شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح
مكة ، فطلبه
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية ؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان ، وأخرج
مقام إبراهيم ونزل عليه
جبريل بهذه الآية .
قال عمر بن الخطاب : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية ، وما كنت سمعتها قبل منه ، فدعا عثمان وشيبة فقال : خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم . وحكى
مكي :
أن شيبة أراد ألا يدفع المفتاح ، ثم دفعه ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : خذه بأمانة الله . وقال
ابن عباس : الآية في الولاة خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ويردوهن إلى الأزواج . والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات . وهذا اختيار
الطبري . وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك ، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه ؛ والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى . وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500091القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها أو قال : ( كل شيء إلا الأمانة - والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع ) . ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم الحافظ في الحلية . وممن قال إن الآية عامة في الجميع
nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب قالوا : الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع ، وقال
ابن عباس : لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة .
قلت : وهذا إجماع . وأجمعوا على أن
الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار ؛ قاله
ابن المنذر . والأمانة مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع . ووجه النظم بما تقدم
[ ص: 222 ] أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة
محمد صلى الله عليه وسلم ، وقولهم : إن المشركين أهدى سبيلا ، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات ؛ فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا . وأمهاتها في الأحكام : الوديعة واللقطة والرهن والعارية . وروى
أبي بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830468أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك . أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني . ورواه
أنس nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في " البقرة " معناه . وروى
أبو أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832629العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم . صحيح أخرجه
الترمذي وغيره . وزاد
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : فقال رجل : فعهد الله ؟ قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=838697عهد الله أحق ما أدي ) . وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تعدى فيها أو لم يتعد -
عطاء nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وأحمد وأشهب . وروي أن
ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=3وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمنا الوديعة . وروى
ابن القاسم عن
مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي . وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري والنخعي ، وهو قول الكوفيين
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي قالوا : ومعنى قوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832630العارية مؤداة هو كمعنى قوله تعالى :
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها . فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها لأنه مصدق فكذلك العارية إذا تلفت من غير تعد ؛ لأنه لم يأخذها على الضمان ، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها لجنايته عليها . وروي عن
علي وعمر nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود أنه لا ضمان في العارية . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500092لا ضمان على مؤتمن . واحتج
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي فيما استدل به بقول
صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار منه الأدراع :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832631أعارية مضمونة أو عارية مؤداة ؟ فقال : ( بل عارية مؤداة ) .
الثانية : قوله تعالى :
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل قال
الضحاك : بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر . وهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام ، ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق كما ذكرنا في أداء الأمانات . قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832632إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما [ ص: 223 ] ولوا . وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832633كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته . فجعل في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة : وحكاما على مراتبهم ، وكذلك العالم الحاكم ؛ لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام ، والفرض والندب ، والصحة والفساد ، فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يقضى . وقد تقدم في البقرة القول في ( نعما )
قوله تعالى :
إن الله كان سميعا بصيرا وصف الله تعالى نفسه بأنه سميع بصير يسمع ويرى ؛ كما قال تعالى :
إنني معكما أسمع وأرى فهذا طريق السمع . والعقل يدل على ذلك ؛ فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضيهما من العمى والصمم ، إذ المحل القابل للضدين لا يخلو من أحدهما ، وهو تعالى مقدس عن النقائص ويستحيل صدور الأفعال الكاملة من المتصف ، بالنقائص ؛ كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر . وأجمعت الأمة على تنزيهه تعالى عن النقائص وهو أيضا دليل سمعي يكتفى به مع نص القرآن في مناظرة من تجمعهم كلمة الإسلام . جل الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون ويختلقه المفترون الكاذبون سبحان ربك رب العزة عما يصفون .