قوله تعالى :
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا [ ص: 301 ] فيه عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ضربتم سافرتم ، وقد تقدم . واختلف العلماء في حكم
القصر في السفر ؛ فروي عن جماعة أنه فرض . وهو قول
عمر بن عبد العزيز والكوفيين
والقاضي إسماعيل nindex.php?page=showalam&ids=15741وحماد بن أبي سليمان ؛ واحتجوا بحديث
عائشة رضي الله عنها ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ) الحديث ، ولا حجة فيه لمخالفتها له ؛ فإنها كانت تتم في السفر وذلك يوهنه . وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم ؛ وقد قال غيرها من الصحابة
كعمر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=67وجبير بن مطعم : ( إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ) رواه
مسلم عن
ابن عباس . ثم إن حديث
عائشة قد رواه
ابن عجلان عن
صالح بن كيسان عن
عروة عن
عائشة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832698فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين . وقال فيه
الأوزاعي عن
ابن شهاب عن
عروة عن
عائشة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832698فرض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين ؛ الحديث ، وهذا اضطراب . ثم إن قولها : ( فرضت الصلاة ) ليس على ظاهره ؛ فقد خرج عنه صلاة المغرب والصبح ؛ فإن المغرب ما زيد فيها ولا نقص منها . وكذلك الصبح ، وهذا كله - يضعف متنه لا سنده . وحكى
ابن الجهم أن
أشهب روى عن
مالك أن القصر فرض ، ومشهور مذهبه وجل أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه إن شاء الله . ومذهب عامة البغداديين من المالكيين أن الفرض التخيير ؛ وهو قول أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . ثم اختلفوا في أيهما أفضل ؛ فقال بعضهم : القصر أفضل ؛ وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13658الأبهري وغيره . وقيل : إن الإتمام أفضل ؛ وحكي عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وحكى
أبو سعيد الفروي المالكي أن الصحيح في مذهب
مالك التخيير للمسافر في الإتمام والقصر .
قلت : وهو الذي يظهر من قوله سبحانه وتعالى :
فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إلا أن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا رحمه الله يستحب له القصر ، وكذلك يرى عليه الإعادة في الوقت إن أتم . وحكى
أبو مصعب في " مختصره " عن
مالك وأهل المدينة قال : القصر في السفر للرجال والنساء سنة . قال
أبو عمر : وحسبك بهذا في مذهب
مالك ، مع أنه لم يختلف قوله : أن من أتم في السفر يعيد ما دام في الوقت ؛ وذلك استحباب عند من فهم ، لا إيجاب . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي :
[ ص: 302 ] القصر في غير الخوف بالسنة ، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسنة ؛ ومن صلى أربعا فلا شيء عليه ، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة . وقال
أبو بكر الأثرم : قلت
nindex.php?page=showalam&ids=12251لأحمد بن حنبل للرجل أن يصلي في السفر أربعا ؟ قال : لا ، ما يعجبني ، السنة ركعتان . وفي موطأ
مالك عن
ابن شهاب nindex.php?page=hadith&LINKID=832699عن رجل من آل خالد بن أسيد ، أنه سأل عبد الله بن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر ؟ فقال عبد الله بن عمر : يا ابن أخي إن الله تبارك وتعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا ، فإنا نفعل كما رأيناه يفعل . ففي هذا الخبر قصر الصلاة في السفر من غير خوف سنة لا فريضة ؛ لأنها لا ذكر لها في القرآن ، وإنما القصر المذكور في القرآن إذا كان سفرا وخوفا واجتمعا ؛ فلم يبح القصر في كتابه إلا مع هذين الشرطين . ومثله في القرآن :
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح الآية ، وقد تقدم . ثم قال تعالى :
فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي فأتموها ؛ وقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أربع إلى اثنتين إلا المغرب في أسفاره كلها آمنا لا يخاف إلا الله تعالى ؛ فكان ذلك سنة مسنونة منه صلى الله عليه وسلم ، زيادة في أحكام الله تعالى كسائر ما سنه وبينه ، مما ليس له في القرآن ذكر . وقوله : " كما رأيناه يفعل " مع حديث
عمر حيث
nindex.php?page=hadith&LINKID=838796سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصر في السفر من غير خوف ؛ فقال : تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته يدل على أن الله تعالى قد يبيح الشيء في كتابه بشرط ثم يبيح ذلك الشيء على لسان نبيه من غير ذلك الشرط . وسأل
حنظلة ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان .
قلت : فأين قوله تعالى :
إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ونحن آمنون ؛ قال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذا
ابن عمر قد أطلق عليها سنة ؛ وكذلك قال
ابن عباس . فأين المذهب عنهما ؟ قال
أبو عمر : ولم يقم
مالك إسناد هذا الحديث ؛ لأنه لم يسم الرجل الذي سأل
ابن عمر ، وأسقط من الإسناد رجلا ، والرجل الذي لم يسمه هو
أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، والله أعلم .
الثانية : واختلف العلماء في
حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة ؛ فقال
داود : تقصر في كل سفر طويل أو قصير ، ولو كان ثلاثة أميال من حيث تؤتى الجمعة ؛ متمسكا بما رواه
مسلم عن
يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت
أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832700كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين . وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه مشكوك فيه ، وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ منها القصر ،
[ ص: 303 ] وكان سفرا طويلا زائدا على ذلك ، والله أعلم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا : إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل ، وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب أو مستخف بالدين ، ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني ، ولا أفكر فيه بفضول قلبي . ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة ، وإنما كان كذلك لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين - خاطبهم الله تعالى بالقرآن ؛ فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لغة ولا شرعا ، وإن مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعا . كما أنا نحكم على أن من مشى يوما وليلة كان مسافرا ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832701لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها وهذا هو الصحيح ، لأنه وسط بين الحالين وعليه عول
مالك ، ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه ، وروي مرة ( يوما وليلة ) ومرة ( ثلاثة أيام ) فجاء إلى
عبد الله بن عمر فعول على فعله ، فإنه كان يقصر الصلاة إلى رئم ، وهي أربعة برد ؛ لأن
ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . قال غيره : وكافة العلماء على أن
القصر إنما شرع تخفيفا ، وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا ، فراعى
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وأصحابهما
nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث
أحمد وإسحاق وغيرهما يوما تاما . وقول
مالك يوما وليلة راجع إلى اليوم التام ، لأنه لم يرد بقوله : مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله ، وإنما أراد أن يسير سيرا يبيت فيه بعيدا عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم . وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : وكان
ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخا ، وهذا مذهب
مالك . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=16935والطبري : ستة وأربعون ميلا . وعن
مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على خمسة وأربعين ميلا قال : يقصر ، وهو أمر متقارب . وعن
مالك في الكتب المنثورة : أنه يقصر في ستة وثلاثين ميلا ، وهي تقرب من يوم وليلة . وقال
يحيى بن عمر : يعيد أبدا .
ابن عبد الحكم : في الوقت ! . وقال الكوفيون : لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام ؛ وهو قول
عثمان nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود وحذيفة . وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832702لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم . قال
أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام . وقال
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري : تقصر الصلاة في مسيرة يومين ؛ وروي هذا القول عن
مالك ، ورواه
أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832703لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي [ ص: 304 ] محرم . وقصر
ابن عمر في ثلاثين ميلا ،
وأنس في خمسة عشر ميلا . وقال
الأوزاعي : عامة العلماء في القصر على اليوم التام ، وبه نأخذ . قال
أبو عمر : اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب كما ترى في ألفاظها ؛ ومجملها عندي - والله أعلم - أنها خرجت على أجوبة السائلين ، فحدث كل واحد بمعنى ما سمع ، كأنه قيل له صلى الله عليه وسلم في وقت ما :
هل تسافر المرأة مسيرة يوم بغير محرم ؟ فقال : لا . وقيل له في وقت آخر : هل تسافر المرأة يومين بغير محرم ؟ فقال : لا . وقال له آخر : هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم ؟ فقال : لا . وكذلك معنى الليلة والبريد على ما روي ، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى ، والله أعلم . ويجمع معاني الآثار في هذا الباب - وإن اختلفت ظواهرها - الحظر على المرأة أن تسافر سفرا يخاف عليها فيه الفتنة بغير محرم ، قصيرا كان أو طويلا . والله أعلم .
الثالثة : واختلفوا في
نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس . واختلفوا فيما سوى ذلك ، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح كالتجارة ونحوها . وروي عن
ابن مسعود أنه قال : لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد . وقال
عطاء : لا تقصر إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير . وروي عنه أيضا : تقصر في كل السفر المباح مثل قول الجمهور . وقال
مالك : إن خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزها ، أو خرج لمشاهدة بلدة متنزها ومتلذذا لم يقصر . والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية ؛ كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما . وروي عن
أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي إباحة القصر في جميع ذلك ، وروي عن
مالك . وقد تقدم في " البقرة " واختلف عن
أحمد ، فمرة قال بقول الجمهور ، ومرة قال : لا يقصر إلا في حج أو عمرة . والصحيح ما قاله الجمهور ، لأن القصر إنما شرع تخفيفا عن المسافر للمشقات اللاحقة فيه ، ومعونته على ما هو بصدده مما يجوز ، وكل الأسفار في ذلك سواء ؛ لقوله تعالى :
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أي إثم
أن تقصروا من الصلاة فعم . وقال عليه السلام
nindex.php?page=hadith&LINKID=838801خير عباد الله الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا . وقال
الشعبي : إن الله يحب أن يعمل برخصه كما يحب أن يعمل بعزائمه . وأما سفر المعصية فلا يجوز القصر فيه ؛ لأن ذلك يكون عونا له على معصية الله . والله تعالى يقول :
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
[ ص: 305 ] الرابعة : واختلفوا
متى يقصر ، فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية ، وحينئذ هو ضارب في الأرض ، وهو قول
مالك في المدونة . ولم يحد
مالك في القرب حدا . وروي عنه إذا كانت قرية تجمع أهلها فلا يقصر أهلها حتى يجاوزوها بثلاثة أميال ، وإلى ذلك في الرجوع . وإن كانت لا تجمع أهلها قصروا إذا جاوزوا بساتينها . وروي عن
الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله ، وفيهم
الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب
ابن مسعود ، وبه قال
عطاء بن أبي رباح nindex.php?page=showalam&ids=16047وسليمان بن موسى .
قلت : ويكون معنى الآية على هذا :
وإذا ضربتم في الأرض أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض . والله أعلم . وروي عن
مجاهد أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل . وهذا شاذ ؛ وقد ثبت من حديث
أنس بن مالك nindex.php?page=hadith&LINKID=832704أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين . أخرجه الأئمة ، وبين
ذي الحليفة والمدينة نحو من ستة أميال أو سبعة .
الخامسة :
وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام ؛ فإن افتتح الصلاة بنية القصر ثم عزم على المقام في أثناء صلاته جعلها نافلة ، وإن كان ذلك بعد أن صلى منها ركعة أضاف إليها أخرى وسلم ، ثم صلى صلاة مقيم . قال
الزهري وابن الجلاب : هذا - والله أعلم - استحباب ولو بنى على صلاته وأتمها أجزأته صلاته . قال
أبو عمر : هو عندي كما قالا ؛ لأنها ظهر ، سفرية كانت أو حضرية وكذلك سائر الصلوات الخمس .
السادسة : واختلف العلماء من هذا الباب في
مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتم ؛ فقال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد nindex.php?page=showalam&ids=16935والطبري nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور : إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتم ؛ وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب . وقال
أبو حنيفة وأصحابه
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري : إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتم ، وإن كان أقل قصر . وهو قول
ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فيما ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي ، وروي عن
سعيد أيضا . وقال
أحمد : إذا جمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر ، وإن زاد على ذلك أتم ، وبه قال
داود . والصحيح ما قاله
مالك ؛ لحديث
ابن الحضرمي nindex.php?page=hadith&LINKID=838803عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام ثم يصدر . أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه وغيرهما . ومعلوم أن الهجرة إذ كانت مفروضة قبل الفتح كان المقام
بمكة لا يجوز ؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه وتهيئة أسبابه ، ولم يحكم لها بحكم المقام ولا في حيز الإقامة ، وأبقى عليه فيها حكم المسافر ، ومنعه من مقام
[ ص: 306 ] الرابع ، فحكم له بحكم الحاضر القاطن ؛ فكان ذلك أصلا معتمدا عليه . ومثله ما فعله
عمر رضي الله عنه حين أجلى اليهود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فجعل لهم مقام ثلاثة أيام في قضاء أمورهم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وسمعت بعض أحبار المالكية يقول : إنما كانت الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة ؛ لأن الله تعالى أرجأ فيها من أنزل به العذاب وتيقن الخروج عن الدنيا ؛ فقال تعالى :
تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب .
وفي المسألة قول غير هذه الأقوال ، وهو أن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه ، أو ينزل وطنا له . روي عن
أنس أنه أقام سنتين
بنيسابور يقصر الصلاة . وقال
أبو مجلز : قلت
nindex.php?page=showalam&ids=12لابن عمر : إني آتي
المدينة فأقيم بها السبعة الأشهر والثمانية طالبا حاجة ، فقال : صل ركعتين . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11813أبو إسحاق السبيعي : أقمنا
بسجستان ومعنا رجال من أصحاب
ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين . وأقام
ابن عمر بأذربيجان يصلي ركعتين ركعتين ؛ وكان الثلج حال بينهم وبين القفول : قال
أبو عمر : محمل هذه الأحاديث عندنا على ألا نية لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدة ؛ وإنما مثل ذلك أن يقول : أخرج اليوم ، أخرج غدا ؛ وإذا كان هكذا فلا عزيمة هاهنا على الإقامة .
السابعة : روى
مسلم عن
عروة nindex.php?page=hadith&LINKID=832705عن عائشة قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ، ثم أتمها في الحضر ، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى . قال
الزهري : فقلت
لعروة ما بال
عائشة تتم في السفر ؟ قال : إنها تأولت ما تأول
عثمان . وهذا جواب ليس بموعب . وقد اختلف الناس في تأويل إتمام
عثمان nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة رضي الله عنهما على أقوال : فقال
معمر عن
الزهري : إن
عثمان رضي الله عنه إنما صلى
بمنى أربعا لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج . وروى
مغيرة عن
إبراهيم أن
عثمان صلى أربعا لأنه اتخذها وطنا . وقال
يونس عن
الزهري قال : لما اتخذ
عثمان الأموال
بالطائف وأراد أن يقيم بها صلى أربعا . قال : ثم أخذ به الأئمة بعده . وقال
أيوب عن
الزهري ، إن
عثمان بن عفان أتم الصلاة
بمنى من أجل الأعراب ؛ لأنهم كثروا عامئذ فصلى بالناس أربعا ليعلمهم أن الصلاة أربع . ذكر هذه الأقوال كلها
أبو داود في مصنفه في كتاب المناسك في باب الصلاة
بمنى . وذكر
أبو عمر في ( التمهيد ) قال
ابن [ ص: 307 ] جريج : وبلغني إنما أوفاها
عثمان أربعا
بمنى ، من أجل أن أعرابيا ناداه في
مسجد الخيف بمنى فقال : يا أمير المؤمنين ، ما زلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام الأول ؛ فخشي
عثمان أن يظن جهال الناس أنما الصلاة ركعتان . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : وإنما أوفاها
بمنى فقط . قال
أبو عمر : وأما التأويلات في إتمام
عائشة فليس منها شيء يروى عنها ، وإنما هي ظنون وتأويلات لا يصحبها دليل . وأضعف ما قيل في ذلك : إنها أم المؤمنين ، وإن الناس حيث كانوا هم بنوها ، وكان منازلهم منازلها ، وهل كانت أم المؤمنين إلا أنها زوج النبي أبي المؤمنين صلى الله عليه وسلم وهو الذي سن القصر في أسفاره وفي غزواته وحجه وعمره . وفي قراءة
أبي بن كعب ومصحفه " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " . وقال
مجاهد في قوله تعالى :
هؤلاء بناتي هن أطهر لكم قال : لم يكن بناته ولكن كن نساء أمته ، وكل نبي فهو أبو أمته .
قلت : وقد اعترض على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشرعا ، وليست هي كذلك فانفصلا . وأضعف من هذا قول من قال : إنها حيث أتمت لم تكن في سفر جائز ؛ وهذا باطل قطعا ، فإنها كانت أخوف لله وأتقى من أن تخرج في سفر لا يرضاه . وهذا التأويل عليها من أكاذيب
الشيعة المبتدعة وتشنيعاتهم ؛ سبحانك هذا بهتان عظيم ! وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسبة تريد أن تطفئ نار الفتنة ، إذ هي أحق أن يستحيا منها فخرجت الأمور عن الضبط . وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى . وقيل : إنها أتمت لأنها لم تكن ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزوة . وهذا باطل ؛ لأن ذلك لم ينقل عنها ولا عرف من مذهبها ، ثم هي قد أتمت في سفرها إلى
علي . وأحسن ما قيل في قصرها وإتمامها أنها أخذت برخصة الله ؛ لتري الناس ، أن
الإتمام ليس فيه حرج وإن كان غيره أفضل . وقد قال
عطاء : القصر سنة ورخصة ، وهو الراوي عن
عائشة nindex.php?page=hadith&LINKID=838805أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام وأفطر وأتم الصلاة وقصر في السفر ، رواه
أبو طلحة بن عمر . وعنه قال : كل ذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صام وأفطر وقصر الصلاة وأتم . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي بإسناد صحيح
nindex.php?page=hadith&LINKID=832706أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ! قصرت وأتممت وأفطرت وصمت ؟ فقال : أحسنت يا عائشة وما عاب علي . كذا هو مقيد بفتح التاء الأولى وضم الثانية في الكلمتين . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
عائشة nindex.php?page=hadith&LINKID=838807أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم ؛ قال إسناده صحيح .
الثامنة : قوله تعالى :
أن تقصروا من الصلاة أن في موضع نصب ، أي في أن
[ ص: 308 ] تقصروا . قال
أبو عبيد : فيها ثلاث لغات : قصرت الصلاة وقصرتها وأقصرتها . واختلف العلماء في تأويله ، فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنتين من أربع في الخوف وغيره ؛ لحديث
nindex.php?page=showalam&ids=120يعلى بن أمية على ما يأتي . وقال آخرون : إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة ، والركعتان في السفر إنما هي تمام ، كما قال
عمر رضي الله عنه : تمام غير قصر ، وقصرها أن تصير ركعة . قال السدي : إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام ، والقصر لا يحل إلا أن تخاف ، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا ، ويكون للإمام ركعتان . وروي نحوه عن
ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر بن عبد الله وكعب ، وفعله
حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير
سعيد بن العاص عن ذلك . وروى
ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=838808أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعة سحابة يوم محارب خصفة وبني ثعلبة . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين
ضجنان وعسفان .
قلت : وفي صحيح
مسلم عن
ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832707فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة . وهذا يؤيد هذا القول ويعضده ، إلا أن القاضي
أبا بكر بن العربي ذكر في كتابه المسمى ( بالقبس ) : قال علماؤنا رحمة الله عليهم هذا الحديث مردود بالإجماع .
قلت : وهذا لا يصح ، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع وبالله التوفيق . وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر الرازي الحنفي في ( أحكام القرآن ) أن المراد بالقصر هاهنا
القصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء ، وبترك القيام إلى الركوع . وقال آخرون : هذه الآية مبيحة للقصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب ، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه ، إلى تكبيرة ؛ على ما تقدم في " البقرة " . ورجح
الطبري هذا القول وقال : إنه يعادله قوله تعالى :
فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي بحدودها وهيئتها الكاملة .
قلت : هذه الأقوال الثلاثة في المعنى متقاربة ، وهي مبنية على أن فرض المسافر القصر ، وإن الصلاة في حقه ما نزلت إلا ركعتين ، فلا قصر . ولا يقال في العزيمة لا جناح ، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر ، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك . وذكر الله تعالى القصر بشرطين والذي يعتبر فيه الشرطان صلاة الخوف ؛ هذا ما ذكره
أبو بكر الرازي في ( أحكام القرآن ) واحتج به ، ورد عليه بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=120يعلى بن أمية على ما يأتي آنفا إن شاء الله تعالى .
[ ص: 309 ] التاسعة : قوله تعالى :
إن خفتم خرج الكلام على الغالب ، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار ؛ ولهذا
nindex.php?page=hadith&LINKID=832708قال nindex.php?page=showalam&ids=120يعلى بن أمية قلت لعمر : ما لنا نقصر وقد أمنا . قال عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته .
قلت : وقد استدل أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وغيرهم على الحنفية بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=120يعلى بن أمية هذا فقالوا : إن قوله : " ما لنا نقصر وقد أمنا " دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات . قال
الكيا الطبري : ولم يذكر أصحاب
أبي حنيفة على هذا تأويلا يساوي الذكر ؛ ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان ؛ فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السفر بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا فتجوز صلاة الخوف ؛ فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله . وفي قراءة
أبي " أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا " بسقوط إن خفتم . والمعنى على قراءته : كراهية أن يفتنكم الذين كفروا . وثبت في مصحف
عثمان رضي الله عنه إن خفتم . وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو ؛ فمن كان آمنا فلا قصر له . روي
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول في السفر : أتموا صلاتكم ؛ فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر ، فقالت : إنه كان في حرب وكان يخاف ، وهل أنتم تخافون ؟ . وقال
عطاء : كان يتم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
عائشة nindex.php?page=showalam&ids=37وسعد بن أبي وقاص وأتم
عثمان ، ولكن ذلك معلل بعلل تقدم بعضها . وذهب جماعة إلى أن الله تعالى لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين : السفر والخوف ، وفي غير الخوف بالسنة ، منهم
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وقد تقدم . وذهب آخرون إلى أن قوله تعالى :
إن خفتم ليس متصلا بما قبل ، وأن الكلام تم عند قوله : من الصلاة ثم افتتح فقال :
إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فأقم لهم يا
محمد صلاة الخوف . وقوله :
إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا كلام معترض ، قاله
الجرجاني وذكره
المهدوي وغيرهما . ورد هذا القول
القشيري nindex.php?page=showalam&ids=12815والقاضي أبو بكر بن العربي . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12851القشيري أبو نصر : وفي الحمل على هذا تكلف شديد ، وإن أطنب الرجل - يريد
الجرجاني - في التقدير وضرب الأمثلة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وهذا كله لم يفتقر إليه
عمر ولا ابنه ولا
nindex.php?page=showalam&ids=120يعلى بن أمية معهما .
قلت : قد جاء حديث بما قاله
الجرجاني ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13170القاضي أبو الوليد بن رشد في مقدماته ،
وابن عطية أيضا في تفسيره عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال :
سأل قوم من التجار [ ص: 310 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ثم انقطع الكلام ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى في أثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إلى آخر صلاة الخوف . فإن صح هذا الخبر فليس لأحد معه مقال ، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن . وقد روي عن
ابن عباس أيضا مثله ، قال : إن قوله تعالى :
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة نزلت في الصلاة في السفر ، ثم نزل
إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا في الخوف بعدها بعام . فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين . فقوله :
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة يعني به في السفر ؛ وتم الكلام ، ثم ابتداء فريضة أخرى فقدم الشرط ، والتقدير : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة . والواو زائدة ، والجواب فلتقم طائفة منهم معك . وقوله :
إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا اعتراض . وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة ، وهو حديث
عمر إذ روى
nindex.php?page=hadith&LINKID=832709أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته . قال
النحاس : من جعل قصر النبي صلى الله عليه وسلم في غير خوف وفعله في ذلك ناسخا للآية فقد غلط ؛ لأنه ليس في الآية منع للقصر في الأمن ، وإنما فيها
إباحة القصر في الخوف فقط .
العاشرة : قوله تعالى :
أن يفتنكم الذين كفروا قال
الفراء :
أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل .
وربيعة وقيس وأسد وجميع
أهل نجد يقولون أفتنت الرجل . وفرق
الخليل nindex.php?page=showalam&ids=16076وسيبويه بينهما فقالا : فتنته جعلت فيه فتنة مثل أكحلته ، وأفتنته جعلته مفتتنا . وزعم
الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته .
إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا عدوا هاهنا بمعنى أعداء . والله أعلم .