قوله تعالى
: سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى :
سماعون للكذب كرره تأكيدا وتفخيما ، وقد تقدم
الثانية : قوله تعالى :
أكالون للسحت على التكثير ، والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة ; قال الله تعالى :
فيسحتكم بعذاب ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق :
[ ص: 130 ] وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلفا
كذا الرواية . أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى ; لأن معنى لم يدع لم يبق . ويقال للحالق : أسحت أي استأصل ، وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي : يذهبها ويستأصلها ، وقال
الفراء : أصله كلب الجوع ، يقال رجل مسحوت المعدة أي : أكول ; فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم ، وقيل : سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان .
قلت : والقول الأول أولى ; لأن بذهاب الدين تذهب المروءة ، ولا مروءة لمن لا دين له .
قال
ابن مسعود وغيره : السحت الرشا ، وقال
عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
رشوة الحاكم من السحت ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=839068كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به قالوا : يا رسول الله ; وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم ، وعن
ابن مسعود أيضا أنه قال : السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها ، وقال
ابن خويز منداد : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه ، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها ، ولا خلاف بين السلف أن
أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام ، وقال
أبو حنيفة :
إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل ، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك .
قلت : وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله ; لأن أخذ الرشوة منه فسق ، والفاسق لا يجوز حكمه . والله أعلم ، وقال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830597لعن الله الراشي والمرتشي ، وعن
علي رضي الله عنه أنه قال :
السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه أنه قيل له : الرشوة حرام في كل شيء ؟ فقال : لا ; إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطى ما ليس لك ، أو تدفع حقا قد لزمك ; فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام . قال
أبو الليث السمرقندي الفقيه : وبهذا نأخذ ; لا بأس بأن
يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة . وهذا كما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود أنه كان
بالحبشة فرشا دينارين وقال : إنما الإثم على القابض دون الدافع ; قال
المهدوي : ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه .
[ ص: 131 ] قلت : الصحيح في
كسب الحجام أنه طيب ، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته ، وقد روى
مالك عن
حميد الطويل عن
أنس أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830598احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه ; قال
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : هذا يدل على أن كسب الحجام طيب ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جعلا ولا عوضا لشيء من الباطل ، وحديث
أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم ، وناسخ لما كرهه من
إجارة الحجام . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وأبو داود عن
ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830599احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ، ولو كان سحتا لم يعطه ، والسحت والسحت لغتان قرئ بهما ; قرأ
أبو عمرو وابن كثير nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بضمتين ، والباقون بضم السين وحدها ، وروى
العباس بن الفضل عن
خارجة بن مصعب عن
نافع " أكالون للسحت " بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته ; يقال : أسحت وسحت بمعنى واحد . وقال
الزجاج : سحته ذهب به قليلا قليلا .
قوله تعالى :
فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم هذا تخيير من الله تعالى ; ذكره
القشيري ; وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم
المدينة وادع
اليهود ، ولا يجب علينا
الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة ، بل يجوز الحكم إن أردنا . فأما
أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا ؟ قولان
nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي ; وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم . قال
المهدوي : أجمع العلماء على أن
على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي ، واختلفوا في الذميين ; فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير ; روي ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=12354النخعي nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي وغيرهما ، وهو مذهب
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وغيرهما ، سوى ما روي عن
مالك في ترك
إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى ; فإنه إن
زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها ، فإن
كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما ; وهو مذهب
أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما ، وقد روي عن
أبي حنيفة أيضا أنه قال : يجلدان ولا يرجمان ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأبو يوسف nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور وغيرهم : عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا . قال
ابن خويز منداد : ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض ، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل
[ ص: 132 ] وأشباه ذلك ، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي ، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم . فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام ، وأما
إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم ، وواجب قطع الفساد عنهم ، منهم ومن غيرهم ; لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم ; ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا ; ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات ; لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين ، وأما
الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا ، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم ، وليس كذلك الديون والمعاملات ; لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد . والله أعلم .
وفي الآية قول ثان : وهو ما روي عن
عمر بن عبد العزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى :
وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأن على الحاكم أن يحكم بينهم ; وهو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم ، وروي عن
عكرمة أنه قال :
فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسختها آية أخرى
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، وقال
مجاهد : لم ينسخ من " المائدة " إلا آيتان ; قوله :
فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسختها
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ; وقوله :
لا تحلوا شعائر الله نسختها
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وقال
الزهري : مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم ، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله . قال
السمرقندي : وهذا القول يوافق قول
أبي حنيفة إنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا ، وقال
النحاس في " الناسخ والمنسوخ " له : قوله تعالى :
فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ ; لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة واليهود فيها يومئذ كثير ، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم ، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل
وأن احكم بينهم بما أنزل الله . وقاله
ابن عباس ومجاهد وعكرمة nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري nindex.php?page=showalam&ids=16673وعمر بن عبد العزيز nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ; وهو الصحيح من قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ; قال في كتاب الجزية : ولا خيار له إذا تحاكموا إليه ; لقوله عز وجل :
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . قال
النحاس : وهذا من أصح الاحتجاجات ; لأنه إذا كان معنى قوله :
وهم صاغرون [ ص: 133 ] أن تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم ; فإذا وجب هذا فالآية منسوخة ، وهو أيضا قول
الكوفيين أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=15922وزفر nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبي يوسف ومحمد ، لا اختلاف بينهم إذا
تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنهم ، غير أن
أبا حنيفة قال : إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل ، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم .
وقال الباقون : يحكم فثبت أن قول أكثر العلماء إن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف
ابن عباس ; ولو لم يأت الحديث عن
ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة ; لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم ، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة ، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا ، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه . قال
النحاس : ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر ; منهم من يقول : على الإمام إذا علم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل :
وأن احكم بينهم يحتمل أمرين :
أحدهما : وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك .
والآخر : وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك - إذا علمت ذلك منهم - قالوا : فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا ; فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى :
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ، وأما ما في السنة فحديث
nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=839072مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال : أهكذا حد الزاني عندكم فقالوا : نعم . فدعا رجلا من علمائهم فقال : سألتك بالله أهكذا حد الزاني فيكم فقال : لا . الحديث ، وقد تقدم . قال
النحاس : فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث . فإن قال قائل : ففي حديث
مالك عن
نافع عن
ابن عمر أن
اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ; قيل له : ليس في حديث
مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم . قال
أبو عمر بن عبد البر : لو تدبر من احتج بحديث
البراء لم يحتج ; لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل :
إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا يقول : إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، دليل على أنهم حكموه ، وذلك بين في حديث
ابن عمر وغيره . فإن قال قائل : ليس في حديث
ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه . قيل له :
[ ص: 134 ] حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته . ومعلوم أن
اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم ، ويقيم حدودهم عليهم ، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والله أعلم .
قوله تعالى :
وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط روى
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي عن
ابن عباس قال كان
قريظة والنضير ، وكان
النضير أشرف من
قريظة ، وكان إذا قتل رجل من
قريظة رجلا من
النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من
النضير رجلا من
قريظة ودى مائة وسق من تمر ; فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من
النضير رجلا من
قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا لنقتله ; فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت :
وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط النفس بالنفس ، ونزلت :
أفحكم الجاهلية يبغون .