قوله تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى :
أفحكم الجاهلية يبغون أفحكم نصب ب يبغون والمعنى : أن الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع ; كما تقدم في غير موضع ، وكانت
اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء ، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء ; فضارعوا الجاهلية في هذا الفعل .
الثانية : روى
سفيان بن عيينة عن
ابن أبي نجيح عن
طاوس قال : كان إذا سألوه عن
[ ص: 156 ] الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية
أفحكم الجاهلية يبغون فكان
طاوس يقول : ليس لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض ، فإن فعل لم ينفذ وفسخ ; وبه قال
أهل الظاهر ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل مثله ، وكرهه
الثوري nindex.php?page=showalam&ids=16418وابن المبارك وإسحاق ; فإن فعل ذلك أحد نفذ ولم يرد ، وأجاز ذلك
مالك nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وأصحاب الرأي ; واستدلوا بفعل الصديق في نحله
عائشة دون سائر ولده ، وبقوله عليه السلام : فارجعه وقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830615فأشهد على هذا غيري ، واحتج الأولون بقوله عليه السلام لبشير :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830616ألك ولد سوى هذا قال نعم ، فقال : أكلهم وهبت له مثل هذا فقال لا ، قال : فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور في رواية
nindex.php?page=hadith&LINKID=830617وإني لا أشهد إلا على حق . قالوا : وما كان جورا وغير حق فهو باطل لا يجوز . وقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830618أشهد على هذا غيري ليس إذنا في الشهادة وإنما هو زجر عنها ; لأنه عليه السلام قد سماه جورا وامتنع من الشهادة فيه ; فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه ، وأما فعل
أبي بكر فلا يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم ، ولعله قد كان نحل أولاده نحلا يعادل ذلك .
فإن قيل : الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقا ، قيل له : الأصل الكلي والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل لا تعارض بينهما كالعموم والخصوص ، وفي الأصول أن الصحيح بناء العام على الخاص ، ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق الذي هو أكبر الكبائر ، وذلك محرم ، وما يؤدي إلى المحرم فهو ممنوع ; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830619اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم . قال
النعمان : فرجع أبي فرد تلك الصدقة ، والصدقة لا يعتصرها الأب بالإنفاق وقوله : ( فارجعه ) محمول على معنى فاردده ، والرد ظاهر في الفسخ ; كما قال عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830459من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد أي : مردود مفسوخ . وهذا كله ظاهر قوي ، وترجيح جلي في المنع .
الثالثة : قرأ
ابن وثاب والنخعي " أفحكم " بالرفع على معنى يبغونه ; فحذف الهاء كما حذفها
أبو النجم في قوله :
قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع
فيمن روى " كله " بالرفع . ويجوز أن يكون التقدير : أفحكم الجاهلية حكم يبغونه ؟
[ ص: 157 ] فحذف الموصوف ، وقرأ
الحسن وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=13723والأعرج nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش " أفحكم " بنصب الحاء والكاف وفتح الميم ; وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة إذ ليس المراد نفس الحكم ، وإنما المراد الحكم ; فكأنه قال : أفحكم حكم الجاهلية يبغون ، وقد يكون الحكم والحاكم في اللغة واحدا وكأنهم يريدون الكاهن وما أشبهه من حكام الجاهلية ; فيكون المراد بالحكم الشيوع والجنس ، إذ لا يراد به حاكم بعينه ; وجاز وقوع المضاف جنسا كما جاز في قولهم : منعت مصر إردبها ، وشبهه ، وقرأ
ابن عامر " تبغون " بالتاء ، الباقون بالياء .
قوله تعالى :
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون هذا استفهام على جهة الإنكار بمعنى : لا أحد أحسن ; فهذا ابتداء وخبر . وحكما نصب على البيان . لقوله لقوم يوقنون أي : عند قوم يوقنون .