قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين
فيه ثلاث مسائل ، الأولى : قوله تعالى :
ادعوا ربكم هذا أمر بالدعاء وتعبد به . ثم قرن جل وعز بالأمر صفات تحسن معه ، وهي
الخشوع والاستكانة والتضرع . ومعنى خفية أي سرا في النفس ليبعد عن الرياء ; وبذلك أثنى على نبيه
زكريا عليه السلام إذ قال مخبرا عنه :
إذ نادى ربه نداء خفيا ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836076خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي . والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر . وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة " قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن : لقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون على أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت ، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم . وذلك أن الله تعالى يقول :
ادعوا ربكم تضرعا وخفية . وذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال :
إذ نادى ربه نداء خفيا . وقد استدل أصحاب
أبي حنيفة بهذا على أن
إخفاء " آمين " أولى من الجهر بها ; لأنه دعاء . وقد مضى القول فيه في " الفاتحة " . وروى
مسلم عن
أبي موسى قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836077كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر - وفي رواية في غزاة - فجعل الناس يجهرون بالتكبير - وفي رواية فجعل رجل كلما علا ثنية قال : لا إله إلا الله - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم . الحديث .
[ ص: 202 ] الثانية : واختلف العلماء في رفع اليدين في الدعاء ; فكرهه طائفة منهم
جبير بن مطعم nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير . ورأى
شريح رجلا رافعا يديه فقال : من تتناول بهما ، لا أم لك ! وقال
مسروق لقوم رفعوا أيديهم : قطعها الله . واختاروا إذا دعا الله في حاجة أن يشير بأصبعه السبابة . ويقولون : ذلك الإخلاص . وكان
قتادة يشير بأصبعه ولا يرفع يديه . وكره رفع الأيدي
عطاء nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس ومجاهد وغيرهم . وروي جواز الرفع عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ; ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري . قال
nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى الأشعري :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836078دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه . ومثله عن
أنس . وقال
ابن عمر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836079رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد . وفي صحيح
مسلم من حديث
عمر بن الخطاب قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836080لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا ، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة مادا يديه ، فجعل يهتف بربه ; وذكر الحديث . وروى
الترمذي عنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836081كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه . قال : هذا حديث صحيح غريب . وروى
ابن ماجه عن
سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836082إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع يديه إليه فيردهما صفرا . أو قال خائبتين . احتج الأولون بما رواه
[ ص: 203 ] مسلم عن
عمارة بن رويبة ورأى
بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال : قبح الله هاتين اليدين ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=836083لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ; وأشار بأصبعه المسبحة . وبما روى
nindex.php?page=showalam&ids=12514سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة أن
أنس بن مالك حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=836084كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء فإنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه . والأول أصح طرقا وأثبت من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12514سعيد بن أبي عروبة ; فإن
سعيدا كان قد تغير عقله في آخر عمره . وقد خالفه
شعبة في روايته عن
قتادة عن
أنس بن مالك فقال فيه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836085كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه . وقد قيل : إنه إذا نزلت بالمسلمين نازلة أن الرفع عند ذلك جميل حسن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ويوم
بدر . قلت : والدعاء حسن كيفما تيسر ، وهو المطلوب من الإنسان لإظهار موضع الفقر والحاجة إلى الله عز وجل ، والتذلل له والخضوع . فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن ، وإن شاء فلا ; فقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حسبما ورد في الأحاديث . وقد قال تعالى :
ادعوا ربكم تضرعا وخفية . ولم يرد صفة من رفع يدين وغيرها . وقال :
الذين يذكرون الله قياما وقعودا فمدحهم ولم يشترط حالة غير ما ذكر . وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة وهو غير مستقبل القبلة .
الثالثة : قوله تعالى
إنه لا يحب المعتدين يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاما إلى هذا هي الإشارة . والمعتدي هو المجاوز للحد ومرتكب الحظر . وقد يتفاضل بحسب ما اعتدى فيه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836086سيكون قوم يعتدون في الدعاء . أخرجه
ابن ماجه عن
أبي بكر بن أبي شيبة . حدثنا
عفان حدثنا
حماد بن سلمة أخبرنا
سعيد الجريري عن
أبي نعامة أن
عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها . فقال : أي بني ، سل الله الجنة وعذ به من النار ; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ ص: 204 ] يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836086سيكون قوم يعتدون في الدعاء . والاعتداء في الدعاء على وجوه : منها الجهر الكثير والصياح ; كما تقدم . ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي ، أو يدعو في محال ; ونحو هذا من الشطط . ومنها أن يدعو طالبا معصية وغير ذلك . ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة ; فيتخير ألفاظا مفقرة وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها ، فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسوله عليه السلام . وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء . كما تقدم في " البقرة " بيانه