قوله تعالى فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون [ ص: 238 ] فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى
فإذا جاءتهم الحسنة أي الخصب والسعة .
قالوا لنا هذه أي أعطيناها باستحقاق .
وإن تصبهم سيئة أي قحط ومرض وهي المسألة :
الثانية :
يطيروا بموسى أي يتشاءموا به . نظيره
وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . والأصل " يتطيروا " أدغمت التاء في الطاء . وقرأ
طلحة : ( تطيروا ) على أنه فعل ماض . والأصل في هذا من الطيرة وزجر الطير ، ثم كثر استعمالهم حتى قيل لكل من تشاءم : تطير . وكانت العرب تتيمن بالسانح : وهو الذي يأتي من ناحية
اليمين . وتتشاءم بالبارح : وهو الذي يأتي من ناحية الشمال . وكانوا يتطيرون أيضا بصوت الغراب ; ويتأولونه البين . وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور ، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك . وهكذا الظباء إذا مضت سانحة أو بارحة ، ويقولون إذا برحت : " من لي بالسانح بعد البارح " . إلا أن أقوى ما عندهم كان يقع في جميع الطير ; فسموا الجميع تطيرا من هذا الوجه . وتطير الأعاجم إذا رأوا صبيا يذهب به إلى المعلم بالغداة ، ويتيمنون برؤية صبي يرجع من عند المعلم إلى بيته ، ويتشاءمون برؤية السقاء على ظهره قربة مملوءة مشدودة ، ويتيمنون برؤية فارغ السقاء مفتوحة قربته ; ويتشاءمون بالحمال المثقل بالحمل ، والدابة الموقرة ، ويتيمنون بالحمال الذي وضع حمله ، وبالدابة يحط عنها ثقلها . فجاء الإسلام بالنهي عن التطير والتشاؤم بما يسمع من صوت طائر ما كان ، وعلى أي حال كان ; فقال عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836104أقروا الطير على مكناتها . وذلك أن كثيرا من أهل الجاهلية كان إذا أراد الحاجة أتى الطير في وكرها فنفرها ; فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته ، وهذا هو السانح عندهم . وإن أخذت ذات الشمال رجع ، وهذا هو البارح عندهم . فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836104أقروا الطير على مكناتها هكذا في الحديث . وأهل العربية يقولون : " وكناتها " قال
امرؤ القيس :
وقد أغتدي والطير في وكناتها
والوكنة : اسم لكل وكر وعش . والوكن : موضع الطائر الذي يبيض فيه ويفرخ ، وهو
[ ص: 239 ] الخرق في الحيطان والشجر . ويقال : وكن الطائر يكن وكونا إذا حضن بيضه . وكان أيضا من العرب من لا يرى التطير شيئا ، ويمدحون من كذب به . قال
المرقش :
ولقد غدوت وكنت لا أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم
وقال
عكرمة : كنت عند
ابن عباس فمر طائر يصيح ; فقال رجل من القوم : خير ، خير . فقال
ابن عباس : ما عند هذا لا خير ولا شر .
قال علماؤنا : وأما أقوال الطير فلا تعلق لها بما يجعل دلالة عليه ، ولا لها علم بكائن فضلا عن مستقبل فتخبر به ، ولا في الناس من يعلم منطق الطير ; إلا ما كان الله تعالى خص به
سليمان صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فالتحق التطير بجملة الباطل . والله أعلم . وقال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836105ليس منا من تحلم أو تكهن أو رده عن سفره تطير . وروى
أبو داود عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836106الطيرة شرك - ثلاثا - وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836107من رجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك . قيل : وما كفارة ذلك يا رسول الله ؟ قال : أن يقول أحدهم : اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ثم يمضي لحاجته . وفي خبر آخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836108إذا وجد ذلك أحدكم فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت لا حول ولا قوة إلا بك . ثم يذهب متوكلا على الله ; فإن الله يكفيه ما وجد في نفسه من ذلك ، وكفاه الله تعالى ما يهمه . وقد تقدم في " المائدة " الفرق بين الفأل والطيرة .
ألا إنما طائرهم عند الله وقرأ
الحسن ( طيرهم ) جمع طائر . أي ما قدر لهم وعليهم .
ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله عز وجل بذنوبهم لا من عند
موسى وقومه .