قوله تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم [ ص: 397 ] فيه مسألتان :
الأولى :
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها إنما قال لها لأن السلم مؤنثة . ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة . والجنوح الميل . يقول : إن مالوا - يعني الذين نبذ إليهم عهدهم - إلى المسالمة ، أي الصلح ، فمل إليها . وجنح الرجل إلى الآخر : مال إليه ، ومنه قيل للأضلاع جوانح ، لأنها مالت على الحشوة . وجنحت الإبل : إذا مالت أعناقها في السير . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذو الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح
وقال
النابغة :
جوانح قد أيقن أن قبيلة
إذا ما التقى الجمعان أول غالب يعني الطير . وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض . والسلم والسلام هو الصلح . وقرأ
الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل ( للسلم ) بكسر السين . الباقون بالفتح . وقد تقدم معنى ذلك في " البقرة " مستوفى . وقد يكون السلام من التسليم . وقرأ الجمهور
فاجنح بفتح النون ، وهي لغة
تميم . وقرأ
الأشهب العقيلي ( فاجنح ) بضم النون ، وهي لغة
قيس . قال
ابن جني : وهذه اللغة هي القياس .
الثانية : وقد اختلف في هذه الآية ، هل هي منسوخة أم لا . فقال
قتادة وعكرمة : نسخها
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .
وقاتلوا المشركين كافة وقالا : نسخت " براءة " كل موادعة ، حتى يقولوا لا إله إلا الله .
ابن عباس : الناسخ لها
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم . وقيل : ليست بمنسوخة ، بل أراد
قبول الجزية من أهل الجزية . وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم ، على ما أخذوه منهم ، وتركوهم على ما هم فيه ، وهم قادرون على استئصالهم . وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من أهل البلاد على مال يؤدونه ، من ذلك
خيبر ، رد أهلها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدوا النصف . قال
ابن إسحاق : قال
مجاهد عنى بهذه الآية
قريظة ، لأن الجزية تقبل منهم ، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي وابن زيد . :
[ ص: 398 ] معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم . ولا نسخ فيها . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وبهذا يختلف الجواب عنه ، وقد قال الله عز وجل :
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم . فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة ، وجماعة عديدة ، وشدة شديدة فلا صلح ، كما قال :
فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا
وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم
وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح ، لنفع يجتلبونه ، أو ضرر يدفعونه ، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه . وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل
خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم . وقد
صالح الضمري وأكيدر دومة وأهل
نجران ، وقد هادن
قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده . وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة ، وبالوجوه التي شرحناها عاملة . قال
القشيري : إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة . وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين ، ولا تجوز الزيادة . وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل
مكة عشر سنين . قال
ابن المنذر : اختلف العلماء في
المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة عام الحديبية ، فقال
عروة : كانت أربع سنين . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : كانت ثلاث سنين . وقال
ابن إسحاق : كانت عشر سنين . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله : لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين ، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام
الحديبية ، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة ، لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية . وقال
ابن حبيب عن
مالك رضي الله عنه : تجوز
مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث ، وإلى غير مدة . قال
المهلب : إنما قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين ، لسبب حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
مكة ، حين توجه إليها فبركت . وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836271حبسها حابس الفيل . على ما خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من حديث
المسور بن مخرمة . ودل على جواز
صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم ، إذا رأى ذلك الإمام وجها . ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو ، لموادعة النبي صلى الله عليه وسلم
عيينة بن حصن الفزاري ،
والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب ، على أن يعطيهما ثلث ثمر
المدينة ، وينصرفا بمن معهما من
غطفان ويخذلا
قريشا ، ويرجعا بقومهما عنهم . وكانت هذه المقالة
[ ص: 399 ] مراوضة ولم تكن عقدا .
nindex.php?page=hadith&LINKID=836272فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا استشار nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ nindex.php?page=showalam&ids=228وسعد بن عبادة ، فقالا : يا رسول الله ، هذا أمر تحبه فنصنعه لك ، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ، أو أمر تصنعه لنا ؟ فقال : بل أمر أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فقال له nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ : يا رسول الله ، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة ، إلا شراء أو قرى ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أنتم وذاك . وقال لعيينة والحارث : انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف . وتناول سعد الصحيفة ، وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها .