قوله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : روي أن هذه الآية نزلت في شأن
عبد الله بن أبي بن سلول وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه . ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما . وتظاهرت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه ، وأن الآية نزلت بعد ذلك . وروي عن
أنس بن مالك nindex.php?page=hadith&LINKID=836458أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية ; فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه . والروايات الثابتة على خلاف هذا ، ففي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
ابن عباس قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف ; فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من ( براءة )
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ونحوه عن
ابن عمر ; خرجه
مسلم . قال
ابن عمر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836459لما توفي [ ص: 142 ] عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما خيرني الله تعالى فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على سبعين قال : إنه منافق . فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فترك الصلاة عليهم . وقال بعض العلماء : إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على
عبد الله بن أبي بناء على الظاهر من لفظ إسلامه . ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه .
الثانية : إن قال قائل : فكيف قال
عمر : أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ; ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم . قيل له : يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره ، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد
كان القرآن ينزل على مراده ، كما قال :
وافقت ربي في ثلاث . وجاء : في أربع . وقد تقدم في البقرة . فيكون هذا من ذلك . ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى :
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم الآية . لا أنه كان تقدم نهي على ما دل عليه حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم . والله أعلم .
قلت : ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى :
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين لأنها نزلت
بمكة . وسيأتي القول فيها .
الثالثة : قوله تعالى
استغفر لهم الآية . بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار . قال
القشيري : ولم يثبت ما يروى أنه قال : ( لأزيدن على السبعين ) .
قلت : وهذا خلاف ما ثبت في حديث
ابن عمر ( وسأزيد على سبعين ) وفي حديث
ابن [ ص: 143 ] عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=836460لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها . قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
الرابعة : واختلف العلماء في تأويل قوله :
استغفر لهم هل هو إياس أو تخيير ، فقالت طائفة : المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى :
فلن يغفر الله لهم . وذكر السبعين وفاق جرى ، أو هو عادتهم في العبارة عن الكثرة والإغياء . فإذا قال قائلهم : لا أكلمه سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله : لا أكلمه أبدا . ومثله في الإغياء قوله تعالى :
في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا وقوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836461من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا . وقالت طائفة : هو تخيير - منهم
الحسن وقتادة وعروة - إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر . ولهذا
nindex.php?page=hadith&LINKID=836462لما أراد أن يصلي على ابن أبي قال عمر : أتصلي على عدو الله ، القائل يوم كذا كذا وكذا ؟ فقال : إني خيرت فاخترت . قالوا ثم نسخ هذا لما نزل
سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم .
ذلك بأنهم كفروا أي لا يغفر الله لهم لكفرهم .
الخامسة : قوله تعالى :
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية . وهذه الآية نزلت
بمكة عند موت
أبي طالب ، على ما يأتي بيانه . وهذا يفهم منه النهي عن
الاستغفار لمن مات كافرا . وهو متقدم على هذه الآية التي فهم منها التخيير بقوله : إنما خيرني الله . وهذا مشكل . فقيل : إن استغفاره لعمه إنما كان مقصوده استغفارا مرجو الإجابة حتى تحصل له المغفرة . وفي هذا الاستغفار استأذن عليه السلام ربه في أن يأذن له فيه لأمه فلم يأذن له فيه . وأما
الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه فهو استغفار لساني لا ينفع ، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له . والله أعلم .
السادسة : واختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه
لعبد الله ; فقيل : إنما أعطاه لأن
عبد الله كان قد أعطى
العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم
بدر . وذلك أن
العباس لما أسر يوم
بدر - على
[ ص: 144 ] ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه ، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص
عبد الله ، لتقاربهما في طول القامة ; فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا ، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها ، وقيل : إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه . والأول أصح ; خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836463لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب ; فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه ، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه ; فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي كذا في بعض الروايات ( من قومي ) يريد من منافقي العرب . والصحيح أنه قال : رجال من قومه . ووقع في مغازي
ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير : فأسلم وتاب لهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من
الخزرج .
السابعة : لما قال تعالى :
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا قال علماؤنا : هذا نص في الامتناع من
الصلاة على الكفار ، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين . واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين . يؤخذ لأنه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى :
إنهم كفروا بالله ورسوله فإذا زال الكفر وجبت الصلاة . ويكون هذا نحو قوله تعالى :
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون يعني الكفار ; فدل على أن غير الكفار يرونه وهم المؤمنون ; فذلك مثله . والله أعلم . أو تؤخذ الصلاة من دليل خارج عن الآية ، وهي الأحاديث الواردة في الباب ، والإجماع . ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه . روى
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836465إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه قال : فقمنا فصففنا صفين ; يعني
[ ص: 145 ] النجاشي . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة nindex.php?page=hadith&LINKID=836466أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، فخرج بهم إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات . وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك
الصلاة على جنائز المسلمين ، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين ، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وعملا . والحمد لله . واتفق العلماء على ذلك إلا في الشهيد كما تقدم ; وإلا في أهل البدع والبغاة .
الثامنة : والجمهور من العلماء على أن
التكبير أربع . قال
ابن سيرين : كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة . وقالت طائفة : يكبر خمسا ; وروي عن
ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=68وزيد بن أرقم . وعن علي : ست تكبيرات . وعن
ابن عباس وأنس بن
مالك nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد : ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع . روى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836467إن الملائكة صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالوا هذه سنتكم يا بني آدم .
التاسعة : ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب
مالك ، وكذلك
أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ; لقوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836468إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء رواه
أبو داود من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة . وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من علمائنا
وداود إلى أنه يقرأ بالفاتحة ; لقوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836469لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب حملا له على عمومه . وبما خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
ابن عباس وصلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال : لتعلموا أنها سنة . وخرج
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي من حديث
أبي أمامة قال : السنة
في الصلاة على الجنائز أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ، ثم يكبر ثلاثا ، والتسليم عند الآخرة . وذكر
محمد بن [ ص: 146 ] نصر المروزي عن
أبي أمامة أيضا قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836470السنة في الصلاة على الجنائز أن تكبر ، ثم تقرأ بأم القرآن ، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم تخلص الدعاء للميت . ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم . قال شيخنا
أبو العباس : وهذان الحديثان صحيحان ، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند . والعمل على حديث
أبي أمامة أولى ; إذ فيه جمع بين قوله عليه السلام : " لا صلاة " وبين إخلاص الدعاء للميت . وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء . والله أعلم .
العاشرة :
وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ، لما رواه
أبو داود عن
أنس وصلى على جنازة فقال له
العلاء بن زياد : يا
أبا حمزة ، هكذا
nindex.php?page=hadith&LINKID=836471كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ؟ قال : نعم . ورواه
مسلم عن
سمرة بن جندب قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836472صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها .
الحادية عشرة : قوله تعالى
ولا تقم على قبره nindex.php?page=hadith&LINKID=836473كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت ، على ما بيناه ( في التذكرة ) والحمد لله .
قوله تعالى
ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون كرره تأكيدا . وقد تقدم الكلام فيه .