قوله تعالى
فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون قوله تعالى
فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فيه ثماني مسائل : الأولى : قوله تعالى
فذلكم الله ربكم الحق أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق ، لا ما أشركتم معه .
فماذا بعد الحق " ذا " صلة أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال . وقال بعض المتقدمين : ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال ; لأن أولها
فذلكم الله ربكم الحق وآخرها
فماذا بعد الحق إلا الضلال فهذا في الإيمان والكفر ، ليس في الأعمال . وقال بعضهم : إن الكفر تغطية الحق ، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى ; فالحرام ضلال والمباح هدى ; فإن
الله هو المبيح والمحرم . والصحيح الأول ; لأن قبل
قل من يرزقكم من السماء والأرض ثم قال
[ ص: 248 ] فذلكم الله ربكم الحق أي هذا الذي رزقكم ، وهذا كله فعله هو .
ربكم الحق أي الذي تحق له الألوهية ويستوجب العبادة ، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق .
الثانية : قال علماؤنا : حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى ، وكذلك هو الأمر في نظائرها ، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد ; لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذات كيف هي ، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها :
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، وقوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836562الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات . والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بها .
الثالثة : ثبت عن
عائشة رضي الله عنها
nindex.php?page=hadith&LINKID=836563أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال : اللهم لك الحمد . الحديث . وفيه أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق الحديث . فقوله : أنت الحق أي الواجب الوجود ; وأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب . وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ; وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم ، ويجوز عليه لحاق العدم ، ووجوده من موجده لا من نفسه . وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر ، كلمة
لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وإليه الإشارة بقوله تعالى :
كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون .
الرابعة : مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا ، كما في هذه الآية . وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا ; قال الله تعالى :
ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل . والضلال حقيقته الذهاب عن الحق ; أخذ من ضلال الطريق ، وهو
[ ص: 249 ] العدول عن سمته . قال
ابن عرفة : الضلالة عند العرب سلوك غير سبيل القصد ; يقال : ضل عن الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه . وخص في الشرع بالعبارة في العدول عن السداد في الاعتقاد دون الأعمال ; ومن غريب أمره أنه يعبر به عن عدم المعرفة بالحق سبحانه إذا قابله غفلة ولم يقترن بعدمه جهل أو شك ، وعليه حمل العلماء قوله تعالى :
ووجدك ضالا فهدى أي غافلا ، في أحد التأويلات ، يحققه قوله تعالى :
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان .
الخامسة : روى
nindex.php?page=showalam&ids=16448عبد الله بن عبد الحكم وأشهب عن
مالك في قوله تعالى :
فماذا بعد الحق إلا الضلال قال :
اللعب بالشطرنج والنرد من الضلال . وروى
يونس عن
ابن وهب أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع امرأته بأربع عشرة ; فقال
مالك : ما يعجبني! وليس من شأن المؤمنين ، يقول الله تعالى :
فماذا بعد الحق إلا الضلال . وروى
يونس عن
أشهب قال : سئل - يعني
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا - عن اللعب بالشطرنج فقال : لا خير فيه ، وليس بشيء وهو من الباطل ، واللعب كله من الباطل ، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل . وقال
الزهري لما سئل عن الشطرنج : هي من الباطل ولا أحبها .
السادسة : اختلف العلماء في جواز اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار ; فتحصيل مذهب
مالك وجمهور الفقهاء في الشطرنج أن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به مرة في الشهر أو العام ، لا يطلع عليه ولا يعلم به أنه معفو عنه غير محرم عليه ولا مكروه له ، وأنه إن تخلع به واشتهر فيه سقطت مروءته وعدالته وردت شهادته . وأما
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي فلا تسقط في مذهب أصحابه شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج ، إذا كان عدلا في جميع أصحابه ، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا ، فإن لعب بها قمارا وكان بذلك معروفا سقطت عدالته وسفه نفسه لأكله المال بالباطل . وقال
أبو حنيفة : يكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل اللهو ; فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساويه قبلت شهادته عندهم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : قالت
الشافعية إن الشطرنج يخالف النرد لأن فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة . والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالأزلام .
السابعة : قال علماؤنا : النرد قطع مملوءة من خشب البقس ومن عظم الفيل ، وكذا هو
[ ص: 250 ] الشطرنج إذ هو أخوه غذي بلبانه . والنرد هو الذي يعرف بالباطل ، ويعرف بالكعاب ويعرف في الجاهلية أيضا بالأرن ويعرف أيضا بالنردشير . وفي صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16035سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836564من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه . قال علماؤنا : ومعنى هذا أي هو كمن غمس يده في لحم الخنزير يهيئه لأن يأكله ، وهذا الفعل في الخنزير حرام لا يجوز ; يبينه قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836565من لعب بالنرد فقد . عصى الله ورسوله رواه
مالك وغيره من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري وهو حديث صحيح ، وهو يحرم اللعب بالنرد جملة واحدة ، وكذلك الشطرنج ، لم يستثن وقتا من وقت ولا حالا من حال ، وأخبر أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله ; إلا أنه يحتمل أن يكون المراد باللعب بالنرد المنهي عنه أن يكون على وجه القمار ; لما روي من إجازة اللعب بالشطرنج عن التابعين على غير قمار . وحمل ذلك على العموم قمارا وغير قمار أولى وأحوط إن شاء الله . قال
أبو عبد الله الحليمي في كتاب منهاج الدين : ومما جاء في الشطرنج حديث يروى فيه كما يروى في النرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله . وعن
علي رضي الله عنه أنه مر على مجلس من مجالس
بني تميم وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال : أما والله لغير هذا خلقتم! أما والله لولا أن تكون سنة لضربت به وجوهكم . وعنه رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ; لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير من أن يمسها . وسئل
ابن عمر عن الشطرنج فقال هي شر من النرد . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى الأشعري : لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ . وسئل
أبو جعفر عن الشطرنج فقال : دعونا من هذه المجوسية . وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=836567وأن من لعب بالنرد والشطرنج والجوز والكعاب مقته الله ومن جلس إلى من يلعب بالنرد والشطرنج لينظر إليهم محيت عنه حسناته كلها وصار ممن مقته [ ص: 251 ] الله .
وهذه الآثار كلها تدل على تحريم اللعب بها بلا قمار ، والله أعلم . وقد ذكرنا في " المائدة " بيان تحريمها وأنها كالخمر في التحريم لاقترانها به ، والله أعلم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي في قبسه : وقد جوزه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول : هو مندوب إليه ، حتى اتخذوه في المدرسة ; فإذا أعيا الطالب من القراءة لعب به في المسجد . وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها ; وما كان ذلك قط! وتالله ما مستها يد تقي . ويقولون : إنها تشحذ الذهن ، والعيان يكذبهم ، ما تبحر فيها قط رجل له ذهن . سمعت الإمام
أبا الفضل عطاء المقدسي يقول
بالمسجد الأقصى في المناظرة : إنها تعلم الحرب . فقال له
الطرطوشي : بل تفسد تدبير الحرب ; لأن الحرب المقصود منها الملك واغتياله ، وفي الشطرنج تقول : شاه إياك : الملك نحه عن طريقي ; فاستضحك الحاضرين . وتارة شدد فيها
مالك وحرمها وقال فيها :
فماذا بعد الحق إلا الضلال وتارة استهان بالقليل منها والأهون ، والقول الأول أصح والله أعلم .
فإن قال قائل : روي عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال : وما الشطرنج ؟ فقيل له : إن امرأة كان لها ابن وكان ملكا فأصيب في حرب دون أصحابه ; فقالت : كيف يكون هذا أرونيه عيانا ; فعمل لها الشطرنج ، فلما رأته تسلت بذلك . ووصفوا الشطرنج
لعمر رضي الله عنه فقال : لا بأس بما كان من آلة الحرب ; قيل له : هذا لا حجة فيه لأنه لم يقل لا بأس بالشطرنج وإنما قال لا بأس بما كان من آلة الحرب . وإنما قال هذا لأنه شبه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب ، فلما قيل له ذلك ولم يحط به علمه قال : لا بأس بما كان من آلة الحرب ، إن كان كما تقولون فلا بأس به ، وكذلك من روي عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه ، فإن ذلك محمول منه على أنه ظن أن ذلك ليس يتلهى به ، وإنما يراد به التسبب إلى علم القتال والمضاربة فيه ، أو على أن الخبر المسند لم يبلغهم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14164الحليمي : وإذا صح الخبر فلا حجة لأحد معه ، وإنما الحجة فيه على الكافة .
الثامنة : ذكر
ابن وهب بإسناده أن
عبد الله بن عمر مر بغلمان يلعبون بالكجة ، وهي حفر فيها حصى يلعبون بها ، قال : فسدها
ابن عمر ونهاهم عنها . وذكر
الهروي في باب " الكاف مع الجيم " في حديث
ابن عباس :
في كل شيء قمار حتى في لعب الصبيان بالكجة ; قال
ابن الأعرابي : هو أن يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة ، ثم يتقامرون بها . وكج : إذا لعب بالكجة .
[ ص: 252 ] قوله تعالى
فأنى تصرفون أي كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت .