قوله تعالى :
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى :
وإلى ثمود أي أرسلنا إلى
ثمود
" أخاهم " أي في النسب .
صالحا وقرأ
يحيى بن وثاب وإلى ثمود بالتنوين في كل القرآن ; وكذلك روي عن
الحسن . واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع . وزعم
أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف ; إذ كان الأغلب عليه التأنيث . قال
النحاس : الذي قال
أبو عبيدة - رحمه الله - من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود ; لأن ثمودا يقال له حي ; ويقال له قبيلة ، وليس الغالب عليه القبيلة ; بل الأمر على ضد ما قال عند
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه . والأجود عند
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف ، نحو
قريش وثقيف وما أشبههما ، وكذلك
ثمود ، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل ، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى . والتأنيث جيد بالغ حسن . وأنشد
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه في التأنيث :
غلب المساميح الوليد سماحة وكفى قريش المعضلات وسادها
الثانية : قوله تعالى :
قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره تقدم .
هو أنشأكم من الأرض أي ابتدأ خلقكم من الأرض ، وذلك أن
آدم خلق من الأرض على ما تقدم في " البقرة " و " الأنعام " وهم منه ، وقيل : أنشأكم في الأرض . ولا يجوز إدغام الهاء من غيره في الهاء من " هو " إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج .
واستعمركم فيها أي جعلكم
[ ص: 51 ] عمارها وسكانها . قال
مجاهد : ومعنى استعمركم أعمركم من قوله : أعمر فلان فلانا داره ; فهي له عمرى . وقال
قتادة : أسكنكم فيها ; وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل ; مثل استجاب بمعنى أجاب . وقال
الضحاك : أطال أعماركم ، وكانت أعمارهم من ثلاثمائة إلى ألف .
ابن عباس : أعاشكم فيها .
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم : أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن ، وغرس أشجار . وقيل : المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها .
الثالثة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي قال بعض علماء الشافعية : الاستعمار طلب العمارة ; والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب ، قال
القاضي أبو بكر : تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان : منها ; استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله : استحملته أي طلبت منه حملانا ; وبمعنى اعتقد ، كقولهم : استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلا ، أو وجدته سهلا ، واستعظمته أي اعتقدته عظيما ووجدته ، ومنه استفعلت بمعنى أصبت ; كقولهم : استجدته أي أصبته جيدا : ومنها بمعنى فعل ; كقوله : قر في المكان واستقر ; وقالوا وقوله : " يستهزئون " و " يستسخرون " منه ; فقوله تعالى :
استعمركم فيها خلقكم لعمارتها ، لا على معنى استجدته واستسهلته ; أي أصبته جيدا وسهلا ; وهذا يستحيل في الخالق ، فيرجع إلى أنه خلق ; لأنه الفائدة ، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازا ; ولا يصح أن يقال : إنه طلب من الله تعالى لعمارتها ، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه ، أما أنه يصح أن يقال : إنه استدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ استفعل ، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمرا ، وطلب للفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى رغبة .
قلت : لم يذكر استفعل بمعنى أفعل ، مثل قوله : استوقد بمعنى أوقد ، وقد ذكرناه وهي :
الرابعة : ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في " البقرة " في السكنى والرقبى . وأما العمرى فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال :
أحدها - أنها تمليك لمنافع الرقبة حياة المعمر مدة عمره ; فإن لم يذكر عقبا فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها أو لورثته ; هذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد ويزيد بن قسيط nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد ، وهو مشهور مذهب
مالك ، وأحد أقوال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وقد تقدم في " البقرة " حجة هذا القول .
الثاني : أنها تمليك الرقبة ومنافعها وهي هبة مبتولة ; وهو قول
أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وأصحابهما
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري [ ص: 52 ] nindex.php?page=showalam&ids=14117والحسن بن حي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل nindex.php?page=showalam&ids=16438وابن شبرمة وأبي عبيد ; قالوا :
من أعمر رجلا شيئا حياته فهو له حياته ; وبعد وفاته لورثته ; لأنه قد ملك رقبتها ، وشرط المعطي الحياة والعمر باطل ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835239العمرى جائزة و
nindex.php?page=hadith&LINKID=835240العمرى لمن وهبت له .
الثالث : إن
قال عمرك ولم يذكر العقب كان كالقول الأول ، وإن قال لعقبك كان كالقول الثاني ; وبه قال
الزهري nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور nindex.php?page=showalam&ids=12031وأبو سلمة بن عبد الرحمن nindex.php?page=showalam&ids=12493وابن أبي ذئب ، وقد روي عن
مالك ; وهو ظاهر قوله في الموطأ . والمعروف عنه وعن أصحابه أنها ترجع إلى المعمر ; إذا انقرض عقب المعمر ; إن كان المعمر حيا ، وإلا فإلى من كان حيا من ورثته ، وأولى الناس بميراثه . ولا يملك المعمر بلفظ العمرى عند
مالك وأصحابه رقبة شيء من الأشياء ، وإنما يملك بلفظ العمرى المنفعة دون الرقبة . وقد قال
مالك في الحبس أيضا : إذا حبس على رجل وعقبه أنه لا يرجع إليه . وإن حبس على رجل بعينه حياته رجع إليه ، وكذلك العمرى قياسا ، وهو ظاهر الموطأ . وفي صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835241أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقال قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطيها وأنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث وعنه قال : إن العمرى التي أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : هي لك ولعقبك ، فأما إذا قال : هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها ; قال
معمر : وبذلك كان
الزهري يفتي .
قلت : معنى القرآن يجري مع أهل القول الثاني ; لأن الله سبحانه قال : واستعمركم بمعنى أعمركم ; فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح ، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن ; وبالعكس الرجل الفاجر ; فالدنيا ظرف لهما حياة وموتا . وقد يقال : إن الثناء الحسن يجري مجرى العقب . وفي التنزيل :
واجعل لي لسان صدق في الآخرين أي ثناء حسنا . وقيل : هو
محمد - صلى الله عليه وسلم - . قال :
وجعلنا ذريته هم الباقين وقال :
وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين .
[ ص: 53 ] الخامسة :
قوله تعالى : فاستغفروه أي سلوه المغفرة من عبادة الأصنام .
ثم توبوا إليه أي ارجعوا إلى عبادته ،
إن ربي قريب أي قريب الإجابة لمن دعاه . وقد مضى في " البقرة " عند قوله :
فإني قريب أجيب دعوة الداعي القول فيه .
قوله تعالى : قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا ; أي قبل دعوتك النبوة . وقيل : كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها ، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم ، فلما دعاهم إلى الله قالوا : انقطع رجاؤنا منك .
أتنهانا استفهام معناه الإنكار .
أن نعبد أي عن أن نعبد
ما يعبد آباؤنا فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر .
وإننا لفي شك وفي سورة " إبراهيم " و " وإنا " والأصل وإننا ; فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة .
مما تدعونا الخطاب
لصالح ، وفي سورة
إبراهيم تدعوننا لأن الخطاب للرسل - صلوات الله وسلامه عليهم -
إليه مريب من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة . قال
الهذلي :
كنت إذا أتوته من غيب يشم عطفي ويبز ثوبي
كأنما أربته بريب
قوله تعالى :
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة تقدم معناه في قول
نوح .
فمن ينصرني من الله إن عصيته استفهام معناه النفي ; أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد .
فما تزيدونني غير تخسير أي تضليل وإبعاد من الخير ; قاله
الفراء . والتخسير لهم لا له - صلى الله عليه وسلم - ; كأنه قال : غير تخسير لكم لا لي . وقيل : المعنى ( ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم ) ; عن
ابن عباس .