قوله تعالى :
قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى :
قوله تعالى : قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف القائل هو
يهوذا ، وهو أكبر ولد
يعقوب ; قاله
ابن عباس . وقيل :
روبيل ، وهو ابن خالته ، وهو الذي قال : " فلن أبرح الأرض " الآية . وقيل :
شمعون .
وألقوه في غيابة الجب قرأ
أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة في غيابة الجب . وقرأ
أهل المدينة " في غيابات الجب " واختار
أبو عبيد التوحيد ; لأنه على موضع واحد ألقوه فيه ، وأنكر الجمع لهذا . قال
النحاس : وهذا تضييق في اللغة ; " وغيابات " على الجمع يجوز من وجهين : حكى
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه سير عليه عشيانات وأصيلانات ، يريد عشية وأصيلا ، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا ; فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة . والآخر - أن يكون في الجب غيابات ( جماعة ) . ويقال : غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا ; كما قال الشاعر :
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث أنا ذاكما قد غيبتني غيابيا
قال
الهروي : والغيابة شبه لجف أو طاق في البئر فويق الماء ، يغيب الشيء عن العين . وقال
ابن عزيز : كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة . قلت : ومنه قيل للقبر غيابة ; قال الشاعر :
فإن أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
والجب الركية التي لم تطو ، فإذا طويت فهي في بئر ; فقال
الأعشى :
[ ص: 118 ] لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا ; وجمع الجب جببة وجباب وأجباب ; وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد ألقوه في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين . قيل : هو
بئر بيت المقدس ، وقيل : هو
بالأردن ; قاله
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه .
مقاتل : وهو على ثلاثة فراسخ من منزل
يعقوب .
الثانية : قوله تعالى :
يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين جزم على جواب الأمر . وقرأ
مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة : " تلتقطه " بالتاء ، وهذا محمول على المعنى ; لأن بعض السيارة سيارة ; وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : سقطت بعض أصابعه ، وأنشد :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال آخر :
أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال
ولم يقل شرق ولا أخذت . والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر ; وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود ; فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد ; وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم ، فربما لا يأذن لهم أبوهم ، وربما يطلع على قصدهم .
الثالثة : وفي هذا ما يدل على أن
إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولا ولا آخرا ; لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم ، بل كانوا مسلمين ، فارتكبوا معصية ثم تابوا . وقيل : كانوا أنبياء ، ولا يستحيل في العقل زلة نبي ، فكانت هذه زلة منهم ; وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه . وقيل : ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله ; وهذا أشبه ، والله أعلم .
الرابعة : قال
ابن وهب قال
مالك :
طرح يوسف في الجب وهو غلام ، وكذلك روى
ابن القاسم عنه ، يعني أنه كان صغيرا ; والدليل عليه قوله تعالى :
لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة قال : ولا يلتقط إلا الصغير ; وقوله :
وأخاف أن يأكله الذئب وذلك أمر يختص بالصغار ; وقولهم :
أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون .
الخامسة :
الالتقاط تناول الشيء من الطريق ; ومنه اللقيط واللقطة ، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة ، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة ; قال
ابن عرفة : الالتقاط
[ ص: 119 ] وجود الشيء على غير طلب ، ومنه قوله تعالى :
يلتقطه بعض السيارة أي يجده من غير أن يحتسبه . وقد اختلف العلماء في
اللقيط ; فقيل : أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد ; وروي عن
الحسن بن علي أنه قضى بأن
اللقيط حر ، وتلا
وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وإلى هذا ذهب
أشهب صاحب
مالك ; وهو قول
عمر بن الخطاب ، وكذلك روي عن
علي وجماعة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك ، وإن نوى الحسبة فهو حر . وقال
مالك في موطئه : الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر ، وأن ولاءه لجماعة المسلمين ، هم يرثونه ويعقلون عنه ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ; واحتج بقوله - عليه السلام - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835268وإنما الولاء لمن أعتق قال : فنفى الولاء عن غير المعتق . واتفق
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وأصحابهما على أن
اللقيط لا يوالي أحدا ، ولا يرثه أحد بالولاء . وقال
أبو حنيفة وأصحابه وأكثر
الكوفيين : اللقيط يوالي من شاء ، فمن والاه فهو يرثه ويعقل عنه ; وعند
أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء ، ما لم يعقل عنه الذي والاه ، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا . وذكر
أبو بكر بن أبي شيبة عن
علي - رضي الله عنه - : المنبوذ حر ، فإن أحب أن يوالي الذي التقطه والاه ، وإن أحب أن يوالي غيره والاه ; ونحوه عن
عطاء ، وهو قول
ابن شهاب وطائفة من
أهل المدينة ، وهو حر . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد ، فقضى بالغالب ، كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب ; فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون ، قال
ابن القاسم : يحكم بالأغلب ; فإن وجد عليه زي
اليهود فهو يهودي ، وإن وجد عليه زي
النصارى فهو نصراني ، وإلا فهو مسلم ، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام . وقال غيره : لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه ، وهو مقتضى قول
أشهب ; قال
أشهب : هو مسلم أبدا ، لأني أجعله مسلما على كل حال ، كما أجعله حرا على كل حال . واختلف الفقهاء في
المنبوذ تدل البينة على أنه عبد ; فقالت طائفة من
أهل المدينة : لا يقبل قولها في ذلك ، وإلى هذا ذهب
أشهب لقول
عمر : هو حر ; ومن قضي بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد . وقال
ابن القاسم : تقبل البينة في ذلك وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي والكوفي .
السادسة : قال
مالك في
اللقيط : إذا أنفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا ، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء
[ ص: 120 ] على الأب ، والملتقط متطوع بالنفقة . وقال
أبو حنيفة : إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع ، إلا أن يأمره الحاكم . وقال
الأوزاعي : كل من أنفق على من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال ، فإن لم يكن ففيه قولان : أحدهما - يستقرض له في ذمته . والثاني - يقسط على المسلمين من غير عوض .
السابعة : وأما اللقطة والضوال فقد اختلف العلماء في حكمهما ; فقالت طائفة من أهل العلم : اللقطة والضوال سواء في المعنى ، والحكم فيهما سواء ; وإلى هذا ذهب
أبو جعفر الطحاوي ، وأنكر قول
nindex.php?page=showalam&ids=12074أبي عبيد القاسم بن سلام - أن
الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان - وقال هذا غلط ; واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإفك للمسلمين :
إن أمكم ضلت قلادتها فأطلق ذلك على القلادة .
الثامنة : أجمع العلماء على أن
اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا ، وأجمعوا أن
صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها ، وأجمعوا أن
ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له ، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها ، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع ; ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة ، ولا تصرف قبل الحول . وأجمعوا أن
ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها .
التاسعة : واختلف الفقهاء في
الأفضل من تركها أو أخذها ; فمن ذلك أن في الحديث دليلا على
إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا . وقال في الشاة : ( لك أو لأخيك أو للذئب ) يحضه على أخذها ، ولم يقل في شيء دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه . ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال في ضالة الإبل ، والله أعلم . وجملة مذهب أصحاب
مالك أنه في سعة ، إن شاء أخذها وإن شاء تركها ; هذا قول
إسماعيل بن إسحاق - رحمه الله - . وقال
المزني عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : لا أحب لأحد ترك اللقطة إن وجدها إذا كان أمينا عليها ; قال : وسواء قليل اللقطة وكثيرها .
العاشرة : روى الأئمة
مالك وغيره عن
زيد بن خالد الجهني قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835269جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا [ ص: 121 ] فشأنك بها قال : فضالة الغنم يا رسول الله ؟ قال : لك أو لأخيك أو للذئب قال : فضالة الإبل ؟ قال : ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها . وفي حديث
أبي قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835270احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ففي هذا الحديث زيادة العدد ; خرجه
مسلم وغيره . وأجمع العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها ;
فإذا أتى صاحب اللقطة بجميع أوصافها دفعت له ; قال
ابن القاسم : يجبر على دفعها ; فإن جاء مستحق يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا ، وهل يحلف مع الأوصاف أو لا ؟ قولان : الأول
nindex.php?page=showalam&ids=12321لأشهب ، والثاني
لابن القاسم ، ولا تلزمه بينة عند
مالك وأصحابه
nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وغيرهم . وقال
أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له ; وهو بخلاف نص الحديث ; ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى ; فإنه يستحقها بالبينة على كل حال ; ولما جاز سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة . والله أعلم .
الحادية عشرة : نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما ، وسكت عما عداهما من الحيوان . وقد اختلف علماؤنا في
البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم ؟ قولان ; وكذلك اختلف أئمتنا في
التقاط الخيل والبغال والحمير ، وظاهر قول
ابن القاسم أنها تلتقط ، وقال
أشهب nindex.php?page=showalam&ids=13469وابن كنانة : لا تلتقط ; وقول
ابن القاسم أصح ; لقوله - عليه السلام - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=839343احفظ على أخيك المؤمن ضالته .
الثانية عشرة : واختلف العلماء في
النفقة على الضوال ; فقال
مالك فيما ذكر عنه
ابن القاسم : إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة ، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره ; قال : وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع ; حكاه عنه
[ ص: 122 ] الربيع . وقال
المزني عنه : إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا ، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا . وقال
أبو حنيفة : إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع ، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء ، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها ، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها ، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة .
الثالثة عشرة : ليس في قوله - صلى الله عليه وسلم - في اللقطة بعد التعريف : فاستمتع بها أو فشأنك بها أو فهي لك أو فاستنفقها أو ثم كلها أو
nindex.php?page=hadith&LINKID=835271فهو مال الله يؤتيه من يشاء على ما في صحيح
مسلم وغيره ، ما يدل على التمليك ، وسقوط الضمان عن الملتقط إذا جاء ربها ; فإن في حديث
زيد بن خالد الجهني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835272فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه في رواية ثم كلها ، فإن جاء صاحبها فأدها إليه . خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم . وأجمع العلماء على أن
صاحبها متى جاء فهو أحق بها ، إلا ما ذهب إليه
داود من أن الملتقط يملك اللقطة بعد التعريف ; لتلك الظواهر ، ولا التفات لقوله ; لمخالفة الناس ، ولقوله - عليه السلام - : فأدها إليه .