قوله تعالى :
فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون قوله تعالى : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب " أن " في موضع نصب ; أي على أن يجعلوه في غيابة الجب .
قيل في القصة : إن
يعقوب - عليه السلام - لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه ، وسلمه إلى
روبيل وقال : يا
روبيل إنه صغير ، وتعلم يا بني شفقتي عليه ; فإن جاع فأطعمه ، وإن عطش فاسقه ، وإن أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي . قال : فأخذوا يحملونه على أكتافهم ، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر ،
ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع ; فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر ، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف ; فاستغاث
بروبيل وقال : ( أنت أكبر إخوتي ، والخليفة من بعد والدي علي ، وأقرب الإخوة إلي ، فارحمني وارحم ضعفي ) فلطمه لطمة شديدة وقال : لا قرابة بيني وبينك ، فادع الأحد عشر كوكبا فلتنجك منا ; فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه ، فتعلق بأخيه
يهوذا وقال : يا أخي ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني ، وارحم قلب أبيك
يعقوب ; فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده ; فرق قلب
يهوذا فقال : والله لا يصلون إليك أبدا ما دمت حيا ، ثم قال : يا إخوتاه إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا ، فردوا هذا الصبي إلى أبيه ، ونعاهده ألا يحدث والده بشيء مما جرى أبدا ; فقال له إخوته : والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند
يعقوب ، والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه ، قال : فإن أبيتم إلا ذلك فهاهنا هذا الجب الموحش القفر ، الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه ، فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد ، وقد استرحتم من دمه ، وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد ; فأجمع رأيهم على ذلك ; فهو قول الله تعالى :
فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وجواب لما محذوف ; أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت فتنتهم . وقيل : جواب لما قولهم :
قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق . وقيل : التقدير فلما ذهبوا به من عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها ، هذا على مذهب
البصريين ; وأما على قول
الكوفيين فالجواب : أوحينا والواو مقحمة ، والواو عندهم تزاد مع لما وحتى ; قال الله تعالى :
حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها [ ص: 126 ] أي فتحت وقوله :
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور أي فار . قال
امرؤ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
[ بها بطن خبث ذي حقاف عنقنق ]
أي انتحى ; ومنه قوله تعالى :
فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أي ناديناه .
وأوحينا إليه دليل على نبوته في ذلك الوقت . قال
الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة : أعطاه الله النبوة وهو في الجب على حجر مرتفع عن الماء . وقال
الكلبي : ألقي في الجب ، وهو ابن ثماني عشرة سنة ، فما كان صغيرا ; ومن قال كان صغيرا فلا يبعد في العقل أن يتنبأ الصغير ويوحى إليه . وقيل : كان وحي إلهام كقوله :
وأوحى ربك إلى النحل . وقيل : كان مناما ، والأول أظهر - والله أعلم - وأن
جبريل جاءه بالوحي .
قوله تعالى :
لتنبئنهم بأمرهم هذا فيه وجهان : أحدهما : أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا ; فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تقوية لقلبه ، وتبشيرا له بالسلامة . الثاني : أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به ; فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذارا له
وهم لا يشعرون أنك
يوسف ; وذلك أن الله تعالى أمره لما أفضى إليه الأمر
بمصر ألا يخبر أباه وإخوته بمكانه . وقيل : بوحي الله تعالى بالنبوة ; قاله
ابن عباس ومجاهد . وقيل : " الهاء "
ليعقوب ; أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه
بيوسف ، وأنه سيعرفهم بأمره ، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه ، والله أعلم .
ومما ذكر من قصته إذ ألقي في الجب ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي وغيره أن إخوته لما جعلوا يدلونه في البئر ، تعلق بشفير البئر ، فربطوا يديه ونزعوا قميصه ; فقال : يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب ، فإن مت كان كفني ، وإن عشت أواري به عورتي ; فقالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك ; فقال : إني لم أر شيئا ، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت ; فكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم آوى إلى صخرة فقام عليها . وقيل : إن
شمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة ، وكان
جبريل تحت ساق العرش ، فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي ; قال
جبريل : فأسرعت وهبطت حتى عارضته بين الرمي والوقوع فأقعدته على الصخرة سالما . وكان ذلك الجب مأوى الهوام ; فقام على الصخرة وجعل يبكي ، فنادوه ، فظن أنها رحمة عليه أدركتهم ، فأجابهم ; فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فمنعهم
يهوذا ، وكان
[ ص: 127 ] يهوذا يأتيه بالطعام ; فلما وقع عريانا نزل
جبريل إليه ; وكان
إبراهيم حين ألقي في النار عريانا أتاه
جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فكان ذلك عند
إبراهيم ، ثم ورثه
إسحاق ، ثم ورثه
يعقوب ، فلما شب
يوسف جعل
يعقوب ذلك القميص في تعويذة وجعله في عنقه ، فكان لا يفارقه ; فلما ألقي في الجب عريانا أخرج
جبريل ذلك القميص فألبسه إياه . قال
وهب : فلما قام على الصخرة قال : يا إخوتاه إن لكل ميت وصية ، فاسمعوا وصيتي ، قالوا : وما هي ؟ قال : إذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي ، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي ، وإذا شربتم فاذكروا عطشي ، وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي ، وإذا رأيتم شابا فاذكروا شبابي ; فقال له
جبريل : يا
يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء ، فإن الدعاء عند الله بمكان ; ثم علمه فقال : قل اللهم يا مؤنس كل غريب ، ويا صاحب كل وحيد ، ويا ملجأ كل خائف ، ويا كاشف كل كربة ، ويا عالم كل نجوى ، ويا منتهى كل شكوى ، ويا حاضر كل ملأ ، يا حي يا قيوم أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي ، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك ، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا ، إنك على كل شيء قدير ; فقالت الملائكة : إلهنا نسمع صوتا ودعاء ، الصوت صوت صبي ، والدعاء دعاء نبي . وقال
الضحاك : نزل
جبريل - عليه السلام - على
يوسف وهو في الجب فقال له : ألا أعلمك كلمات إذا أنت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب ؟ فقال : نعم ، فقال له : قل يا صانع كل مصنوع ، ويا جابر كل كسير ، ويا شاهد كل نجوى ، ويا حاضر كل ملأ ، ويا مفرج كل كربة ، ويا صاحب كل غريب ، ويا مؤنس كل وحيد ، ايتني بالفرج والرجاء ، واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك ; فرددها
يوسف في ليلته مرارا ; فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب .