قوله تعالى : وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين فيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : وشروه يقال : شريت بمعنى اشتريت ، وشريت بمعنى بعت لغة ; قال الشاعر :
[ ص: 137 ] وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
أي بعت . وقال آخر :
فلما شراها فاضت العين عبرة وفي الصدر حزاز من اللوم حامز
بثمن بخس أي نقص ; وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم ; أي باعوه بثمن مبخوس ، أي منقوص . ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه . وقيل : إن
يهوذا رأى من بعيد أن
يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاءوا وباعوه من الواردة . وقيل : لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر ، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا : هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم . وقال
قتادة : " بخس " ظلم وقال
الضحاك ومقاتل nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي وابن عطاء : " بخس " حرام . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : ولا وجه له ، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة ; لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه ; وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا ; أو قالوا لأصحابهم : أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله .
قلت : قوله - وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة - يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك ; فدل على صحة ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي وغيره ; لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها ، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه . وقال
عكرمة nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي : قليل . وقال
ابن حيان : زيف . وعن
ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين ، وكانوا عشرة ; وقاله
قتادة nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي . وقال
أبو العالية ومقاتل : اثنين وعشرين درهما ، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين ; وقاله
مجاهد . وقال
عكرمة : أربعين درهما ; وما روي عن الصحابة أولى . و " بخس " من نعت " ثمن " .
دراهم معدودة على البدل والتفسير له . ويقال : دراهيم على أنه جمع درهام ، وقد يكون اسما للجمع عند
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء ، وليس هذا مثل مد المقصور ; لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره . وأنشد النحويون :
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
[ ص: 138 ] " معدودة " نعت ; وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن . وقيل : هو عبارة عن قلة الثمن ; لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها ; وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية ، وهي أربعون درهما .
الثانية : قال القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وأصل النقدين الوزن ; قال - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835280لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى . والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار ; فأما عينها فلا منفعة فيه ، ولكن جرى فيها العد تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة ، فيشق الوزن ; حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان ; فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن ; ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم .
الثالثة : واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا ؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن
مالك : فذهب
أشهب إلى أن ذلك لا يتعين ، وهو الظاهر من قول مالك ; وبه قال
أبو حنيفة . وذهب
ابن القاسم إلى أنها تتعين ، وحكي عن
الكرخي ; وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا
قال : بعتك هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها ، والدراهم بذمة صاحبها ; ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء ، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها .
الرابعة : روي عن
الحسن بن علي - رضي الله عنهما - أنه قضى في اللقيط أنه حر ، وقرأ :
وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وقد مضى القول فيه .
الخامسة : قوله تعالى :
وكانوا فيه من الزاهدين قيل : المراد إخوته . وقيل : السيارة . وقيل : الواردة ; وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا ، لا عند الإخوة ; لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله ، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم ، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى .
السادسة : في هذه الآية دليل واضح على جواز
شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير ، ويكون البيع لازما ; ولهذا قال
مالك : لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال لم أعلم أنها
[ ص: 139 ] درة وحسبتها مخشلبة لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله .
وقيل :
وكانوا فيه من الزاهدين أي في حسنه ; لأن الله تعالى وإن أعطى
يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له . وقيل :
وكانوا فيه من الزاهدين لم يعلموا منزلته عند الله تعالى . وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها .