قوله تعالى :
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ
قوله تعالى : واستفتحوا أي واستنصروا ; أي أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم ، والدعاء بهلاكهم ; قاله
ابن عباس وغيره ، وقد مضى في " البقرة " . ومنه الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=839452إن [ ص: 305 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح بصعاليك المهاجرين ، أي يستنصر . وقال
ابن زيد : استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت
قريش :
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية . وروي عن
ابن عباس . وقيل قال الرسول :
إنهم كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحا وقالت الأمم : إن كان هؤلاء صادقين فعذبنا ، عن
ابن عباس أيضا ; نظيره
ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ،
ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين .
وخاب كل جبار عنيد الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقا ; هكذا هو عند أهل اللغة ; ذكره
النحاس . والعنيد المعاند للحق والمجانب له ، عن
ابن عباس وغيره ; يقال : عند عن قومه أي تباعد عنهم . وقيل : هو من العند ، وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية معرضا ; قال الشاعر :
إذا نزلت فاجعلوني وسطا إني كبير لا أطيق العندا
وقال
الهروي : قوله تعالى : جبار عنيد أي جائر عن القصد ; وهو العنود والعنيد والعاند ; وفي حديث
ابن عباس وسئل عن المستحاضة فقال : إنه عرق عاند . قال
أبو عبيد : هو الذي عند وبغى كالإنسان يعاند ; فهذا العرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته . وقال
شمر : العاند الذي لا يرقأ . وقال
عمر يذكر سيرته : أضم العنود ; قال
الليث : العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبدا ; أراد من هم بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفت به إليها . وقال
مقاتل : العنيد المتكبر . وقال
ابن كيسان : هو الشامخ بأنفه . وقيل : العنود والعنيد الذي يتكبر على الرسل ويذهب عن طريق الحق فلا يسلكها ; تقول العرب : شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق . وقيل : العنيد العاصي . وقال
قتادة : العنيد الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله . قلت : والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد ، وإن كان اللفظ مختلفا ، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر . وقيل : إن المراد به في الآية
أبو جهل ; ذكره
المهدوي . وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي في كتاب أدب الدنيا والدين أن
nindex.php?page=showalam&ids=15501الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله - عز وجل - :
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد فمزق المصحف وأنشأ يقول :
[ ص: 306 ] أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة ، وصلب رأسه على قصره ، ثم على سور بلده .
قوله تعالى :
من ورائه جهنم أي من وراء ذلك الكافر جهنم ، أي من بعد هلاكه . ووراء بمعنى بعد ; قال
النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
أي بعد الله جل جلاله ; وكذلك قوله تعالى :
ومن ورائه عذاب غليظ أي من بعده ; وقوله تعالى :
ويكفرون بما وراءه أي بما سواه ; قاله
الفراء . وقال
أبو عبيد : بما بعده : وقيل : " من ورائه " أي من أمامه ، ومنه قول الشاعر :
ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي
وقال آخر :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقال
لبيد :
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
يريد أمامي . وفي التنزيل :
وكان وراءهم ملك أي أمامهم ، وإلى هذا ذهب
أبو عبيدة وأبو علي قطرب وغيرهما . وقال
الأخفش : هو كما يقال هذا الأمر من ورائك ، أي سوف يأتيك ، وأنا من وراء فلان أي في طلبه وسأصل إليه . وقال
النحاس في قوله
من ورائه جهنم أي من أمامه ، وليس من الأضداد ولكنه من توارى ; أي استتر . وقال
الأزهري : إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من الأضداد ، وقاله
أبو عبيدة أيضا ، واشتقاقهما مما توارى واستتر ، فجهنم توارى ولا تظهر ، فصارت من وراء لأنها لا ترى ، حكاه
ابن الأنباري وهو حسن .
قوله تعالى : ويسقى من ماء صديد أي من ماء مثل الصديد ، كما يقال للرجل الشجاع أسد ، أي مثل الأسد ، وهو تمثيل وتشبيه . وقيل : هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي nindex.php?page=showalam&ids=14354والربيع بن أنس : هو غسالة أهل النار ، وذلك ماء
[ ص: 307 ] يسيل من فروج الزناة والزواني . وقيل : هو من ماء كرهته تصد عنه ، فيكون الصديد مأخوذا من الصد . وذكر
ابن المبارك ، أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=16230صفوان بن عمرو عن
عبيد الله بن بسر عن
أبي أمامة nindex.php?page=hadith&LINKID=835337عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ويسقى من ماء صديد يتجرعه قال : يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ويقول الله : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب خرجه
الترمذي ، وقال : حديث غريب ،
وعبيد الله بن بسر الذي روى عنه
nindex.php?page=showalam&ids=16230صفوان بن عمرو حديث
أبي أمامة لعله أن يكون أخا
عبد الله بن بسر .
يتجرعه أي يتحساه جرعا لا مرة واحدة لمرارته وحرارته .
ولا يكاد يسيغه أي يبتلعه ; يقال : جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى . وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا إذا كان سلسا سهلا ، وأساغه الله إساغة . و يكاد صلة ; أي يسيغه بعد إبطاء ، قال الله تعالى :
وما كادوا يفعلون أي فعلوا بعد إبطاء ، ولهذا قال :
يصهر به ما في بطونهم والجلود فهذا يدل على الإساغة . وقال
ابن عباس : يجيزه ولا يمر به .
ويأتيه الموت من كل مكان قال
ابن عباس : أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله ، ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه ، كقول :
لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل . وقال
إبراهيم التيمي : يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره ; للآلام التي في كل مكان من جسده . وقال
الضحاك : إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه . وقال
الأخفش : يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا ، وهي من أعظم الموت . وقيل : إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب ; لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة ; إما حية تنهشه ; أو عقرب تلسبه ، أو نار تسفعه ، أو قيد برجليه ، أو غل في عنقه ، أو سلسلة يقرن بها ، أو تابوت يكون فيه ، أو زقوم أو حميم ، أو غير ذلك من العذاب ،
[ ص: 308 ] وقال
محمد بن كعب : إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتات ، فإذا دنا منه مات موتات ، فإذا شرب منه مات موتات ; فذلك قوله :
ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت . قال
الضحاك : لا يموت فيستريح . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة ; ونظيره قوله :
لا يموت فيها ولا يحيا . وقيل : يخلق الله في جسده آلاما كل واحد منها كألم الموت . وقيل :
وما هو بميت لتطاول شدائد الموت به ، وامتداد سكراته عليه ; ليكون ذلك زيادة في عذابه . قلت : ويظهر من هذا أنه يموت ، وليس كذلك ; لقوله تعالى :
لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها وبذلك وردت السنة ; فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائما ، والله أعلم .
ومن ورائه أي من أمامه .
عذاب غليظ أي شديد متواصل الآلام غير فتور ; ومنه قوله :
وليجدوا فيكم غلظة أي شدة وقوة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14919فضيل بن عياض في قول الله تعالى :
ومن ورائه عذاب غليظ قال : حبس الأنفاس .