قوله تعالى :
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [ ص: 323 ] فيه ست مسائل :
الأولى : روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
ابن عباس : ( أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل
أم إسماعيل ; اتخذت منطقا لتعفي أثرها على
سارة ، ثم جاء بها
إبراهيم وبابنها
إسماعيل وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس
بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ; ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفى
إبراهيم منطلقا فتبعته
أم إسماعيل ; فقالت : يا
إبراهيم ! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت إذا لا يضيعنا ; ثم رجعت ، فانطلق
إبراهيم . حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات ، ورفع يديه فقال :
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ
يشكرون وجعلت
أم إسماعيل ترضع
إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت
الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من
الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، ثم جاوزت الوادي ، ثم أتت
المروة فقامت عليه ، فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ; قال
ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835343فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على
المروة سمعت صوتا فقالت : صه ! تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت ، إن كان عندك غواث ! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف ; قال
ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835344يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله ) وذكر الحديث بطوله .
مسألة : لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على
[ ص: 324 ] العزيز الرحيم ، واقتداء بفعل
إبراهيم الخليل ، كما تقول غلاة
الصوفية في
حقيقة التوكل ، فإن
إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله في الحديث : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . وقد روي أن
سارة لما غارت من
هاجر بعد أن ولدت
إسماعيل خرج بها
إبراهيم - عليه السلام - إلى
مكة ، فروي أنه ركب البراق هو
وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من
الشام إلى بطن
مكة ، وترك ابنه وأمته هنالك وركب منصرفا من يومه ، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى ، فلما ولى دعا بضمن هذه الآية .
الثانية : لما أراد الله تأسيس الحال ، وتمهيد المقام ، وخط الموضع للبيت المكرم ، والبلد المحرم ، أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء ، وفي الصحيح : أن
أبا ذر - رضي الله عنه - اجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة ، قال
أبو ذر : ما كان لي طعام إلا ماء
زمزم فسمنت حتى تكسرت عكني ، وما أجد على كبدي سخفة جوع ; وذكر الحديث . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=839470ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفي به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل . وروي أيضا عن
عكرمة قال : كان
ابن عباس إذا شرب من زمزم قال : اللهم إني أسألك علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته ، وسلمت طويته ، ولم يكن به مكذبا ، ولا يشربه
[ ص: 325 ] مجربا ، فإن الله مع المتوكلين ، وهو يفضح المجربين . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14155أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي وحدثني أبي - رحمه الله - قال : دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني ، فجعلت أعتصر حتى آذاني ، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام ، وذلك أيام الحج ; فذكرت هذا الحديث ، فدخلت
زمزم فتضلعت منه ، فذهب عني إلى الصباح . وروي عن
عبد الله بن عمرو : إن في
زمزم عينا في الجنة من قبل الركن .
الثالثة : قوله تعالى : ومن ذريتي " من " في قوله تعالى :
من ذريتي للتبعيض أي أسكنت بعض ذريتي ; يعني
إسماعيل وأمه ; لأن
إسحاق كان
بالشام . وقيل : هي صلة ; أي أسكنت ذريتي .
الرابعة : قوله تعالى :
عند بيتك المحرم يدل على أن البيت كان قديما على ما روي قبل الطوفان ، وقد مضى هذا المعنى في سورة " البقرة " . وأضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره ، ووصفه بأنه محرم ، أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال . وقيل : محرم على الجبابرة ، وأن تنتهك حرمته ، ويستخف بحقه ، قاله
قتادة وغيره . وقد مضى القول في هذا في " المائدة " .
الخامسة : قوله تعالى :
ربنا ليقيموا الصلاة خصها من جملة الدين لفضلها فيه ، ومكانها منه ، وهي عهد الله عند العباد ; قال - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835345خمس صلوات كتبهن الله على العباد . الحديث . واللام في
ليقيموا الصلاة لام كي ; هذا هو الظاهر فيها وتكون متعلقة ب " أسكنت " ويصح أن تكون لام أمر ، كأنه رغب إلى الله أن يأتمنهم وأن يوفقهم لإقامة الصلاة .
السادسة : تضمنت هذه الآية أن
الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها ; لأن معنى
ربنا ليقيموا الصلاة أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه . وقد اختلف العلماء
هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن الصلاة في
المسجد الحرام أفضل من الصلاة في
مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمائة صلاة ، واحتجوا بحديث
عبد الله بن [ ص: 326 ] الزبير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835346صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة " . قال
الإمام الحافظ أبو عمر : وأسند هذا الحديث
حبيب المعلم عن
عطاء بن أبي رباح عن
عبد الله بن الزبير وجوده ، ولم يخلط في لفظه ولا في معناه ، وكان ثقة . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12211ابن أبي خيثمة سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين يقول :
حبيب المعلم ثقة . وذكر
عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي يقول :
حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه ! وسئل
nindex.php?page=showalam&ids=12013أبو زرعة الرازي عن
حبيب المعلم فقال : بصري ثقة . قلت : وقد خرج حديث
حبيب المعلم هذا عن
عطاء بن أبي رباح عن
عبد الله بن الزبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحافظ
nindex.php?page=showalam&ids=13053أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البستي في المسند الصحيح له ، فالحديث صحيح وهو الحجة عند التنازع والاختلاف . والحمد لله . قال
أبو عمر : وقد روي عن
ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث
ابن الزبير ; رواه
موسى الجهني عن
نافع عن
ابن عمرو ;
وموسى الجهني الكوفي ثقة ، أثنى عليه
القطان وأحمد ويحيى وجماعتهم . وروى عنه
شعبة .
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ويحيى بن سعيد . وروى
حكيم بن سيف ، حدثنا
عبيد الله بن عمر ; عن
عبد الكريم عن
عطاء بن أبي رباح ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835347صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيمن سواه .
وحكيم بن سيف هذا شيخ من أهل الرقة قد روى عنه
nindex.php?page=showalam&ids=12013أبو زرعة الرازي ، وأخذ عنه
ابن وضاح ، وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به . فإن كان حفظ فهما حديثان ، وإلا فالقول قول
حبيب المعلم . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13629محمد بن وضاح ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17406يوسف بن عدي عن
عمر بن عبيد عن
عبد الملك عن
عطاء عن
ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835348صلاة في [ ص: 327 ] مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل . قال
أبو عمر : وهذا كله نص في موضع الخلاف قاطع له عند من ألهم رشده ، ولم تمل به عصبيته . وذكر
ابن حبيب عن
مطرف وعن
أصبغ عن
ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في
المسجد الحرام على الصلاة في
مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما في هذا الباب . وقد اتفق
مالك وسائر العلماء على أن
صلاة العيدين يبرز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تصلى في
المسجد الحرام . وكان
عمر وعلي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=4وأبو الدرداء وجابر يفضلون
مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم ; وإلى هذا ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وهو قول
عطاء والمكيين والكوفيين ، وروي مثله عن
مالك ; ذكر
ابن وهب في جامعه عن
مالك أن
آدم - عليه السلام - لما أهبط إلى الأرض قال : يا رب هذه أحب إليك أن تعبد فيها ؟ قال : بل
مكة . والمشهور عنه وعن
أهل المدينة تفضيل
المدينة ، واختلف
أهل البصرة والبغداديون في ذلك ; فطائفة تقول
مكة ، وطائفة تقول
المدينة .
قوله تعالى : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب ، وقد يعبر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر :
وإن فؤادا قادني بصبابة إليك على طول المدى لصبور
وقيل : جمع وفد ، والأصل أوفدة ، فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي ، فكأنه قال : واجعل وفودا من الناس تهوي إليهم ; أي تنزع ; يقال : هوي نحوه إذا مال ، وهوت الناقة تهوي هويا فهي هاوية إذا عدت عدوا شديدا كأنها في هواء بئر ، وقوله :
تهوي إليهم مأخوذ منه . قال
ابن عباس ومجاهد : لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه
فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس ، ولكن قال : من الناس فهم المسلمون ; فقوله :
تهوي إليهم أي تحن إليهم ، وتحن إلى زيارة البيت . وقرأ
مجاهد " تهوى إليهم " أي تهواهم وتجلهم .
وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون فاستجاب الله دعاءه ، وأنبت لهم
بالطائف سائر الأشجار ، وبما يجلب إليهم من الأمصار . وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
ابن عباس الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه : ( فجاء
إبراهيم بعد ما تزوج
إسماعيل يطالع تركته فلم يجد
إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بشر ،
[ ص: 328 ] نحن في ضيق وشدة ; فشكت إليه ، قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه ، فلما جاء
إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال : هل جاءكم من أحد ! قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنا في جهد وشدة ، قال فهل أوصاك بشيء : قالت : أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غير عتبة بابك ; قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ، الحقي بأهلك ; فطلقها وتزوج منهم أخرى ، فلبث عنهم
إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده ، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله . قال ما طعامكم ؟ قالت : اللحم . قال فما شرابكم ؟ قالت : الماء . قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه . قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه ; وذكر الحديث . وقال
ابن عباس : قول
إبراهيم فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم سأل أن يجعل الله الناس يهوون السكنى
بمكة ، فيصير بيتا محرما ، وكل ذلك كان والحمد لله . وأول من سكنه
جرهم . ففي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري - بعد قوله : وإن الله لا يضيع أهله - وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، وكذلك حتى مرت بهم رفقة من
جرهم قافلين من طريق كذا ، فنزلوا بأسفل
مكة ، فرأوا طائرا عائفا فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ! لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ; فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فأخبروهم بالماء فأقبلوا . قال :
وأم إسماعيل عند الماء ; فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء . قالوا : نعم . قال
ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835349فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، شب الغلام ، وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته ; الحديث .