قوله تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله - تعالى - :
وأرسلنا الرياح قراءة العامة الرياح بالجمع . وقرأ
حمزة بالتوحيد ; لأن معنى الريح الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد . كما يقال : جاءت الريح من كل جانب . كما يقال : أرض سباسب وثوب أخلاق . وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتسع . وأما وجه قراءة العامة فلأن الله - تعالى - نعتها ب لواقح وهي جمع . ومعنى لواقح حوامل ; لأنها تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع . قال
الأزهري : وجعل الريح لاقحا لأنها تحمل السحاب ; أي تقله وتصرفه ثم تمريه فتستدره ، أي تنزله ; قال الله - تعالى - :
حتى إذا أقلت سحابا ثقالا أي حملت . وناقة لاقح ونوق لواقح إذا حملت الأجنة في بطونها . وقيل : لواقح بمعنى ملقحة وهو الأصل ، ولكنها لا تلقح إلا وهي في نفسها لاقح ، كأن الرياح لقحت بخير . وقيل : ذوات لقح ، وكل ذلك صحيح ; أي منها ما يلقح الشجر ;
[ ص: 15 ] كقولهم : عيشة راضية ; أي فيها رضا ، وليل نائم ; أي فيه نوم . ومنها ما تأتي بالسحاب . يقال : لقحت الناقة ( بالكسر ) لقحا ولقاحا ( بالفتح ) فهي لاقح . وألقحها الفحل أي ألقى إليها الماء فحملته ; فالرياح كالفحل للسحاب . قال
الجوهري : ورياح لواقح ولا يقال ملاقح ، وهو من النوادر . وحكى
المهدوي عن
أبي عبيدة : لواقح بمعنى ملاقح ، ذهب إلى أنه جمع ملقحة وملقح ، ثم حذفت زوائده . وقيل : هو جمع لاقحة ولاقح ، على معنى ذات اللقاح على النسب . ويجوز أن يكون معنى لاقح حاملا . والعرب تقول للجنوب : لاقح وحامل ، وللشمال حائل وعقيم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير : يرسل الله المبشرة فتقم الأرض قما ، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب ، ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه ، ثم يبعث اللواقح فتلقح الشجر . وقيل : الريح الملاقح التي تحمل الندى فتمجه في السحاب ، فإذا اجتمع فيه صار مطرا . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح التي ذكرها الله في كتابه وفيها منافع للناس . وروي عنه - عليه السلام - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500154ما هبت جنوب إلا أنبع الله بها عينا غدقة . وقال
أبو بكر بن عياش : لا تقطر قطرة من السحاب إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها ; فالصبا تهيجه ، والدبور تلقحه ، والجنوب تدره ، والشمال تفرقه .
الثانية : روى
ابن وهب وابن القاسم وأشهب nindex.php?page=showalam&ids=16991وابن عبد الحكم عن
مالك - واللفظ
nindex.php?page=showalam&ids=12321لأشهب - قال
مالك : قال الله - تعالى - :
وأرسلنا الرياح لواقح فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ، ولا أدري ما ييبس في أكمامه ، ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فساد الأخير فيه . ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت ، وليس ذلك بأن تورد . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل ، وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله ; لأنه سمي باسم تشترك فيه كل حاملة وهو اللقاح ، وعليه جاء الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=835355نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحب حتى يشتد . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : الإبار عند أهل العلم في النخل التلقيح ، وهو أن يؤخذ شيء من
[ ص: 16 ] طلع [ ذكور ] النخل فيدخل بين ظهراني طلع الإناث . ومعنى ذلك في سائر الثمار طلوع الثمرة من التين وغيره حتى تكون الثمرة مرئية منظورا إليها . والمعتبر عند
مالك وأصحابه فيما يذكر من الثمار التذكير ، وفيما لا يذكر أن يثبت ما يثبت ويسقط ما يسقط . وحد ذلك في الزرع ظهوره من الأرض ; قاله
مالك . وقد روي عنه أن إباره أن يحبب . ولم يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه فأخر إباره وقد أبر غيره ممن حاله مثل حاله ، أن حكمه حكم ما أبر ; لأنه قد جاء عليه وقت الإبار وثمرته ظاهرة بعد تغيبها في الحب . فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعا له . كما أن
الحائط إذا بدا صلاحه كان سائر الحائط تبعا لذلك الصلاح في جواز بيعه .
الثالثة : روى الأئمة كلهم عن
ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835356من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع . ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع . قال علماؤنا : إنما لم يدخل الثمر المؤبر مع الأصول في البيع إلا بالشرط ; لأنه عين موجودة يحاط بها أمن سقوطها غالبا . بخلاف التي لم تؤبر ; إذ ليس سقوطها مأمونا فلم يتحقق لها وجود ، فلم يجز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها ; لأنها كالجنين . وهذا هو المشهور من مذهب
مالك . وقيل : يجوز استثناؤها ; هو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
الرابعة : لو
اشتري النخل وبقي الثمر للبائع جاز لمشتري الأصل شراء الثمرة قبل طيبها على مشهور قول
مالك ، ويرى لها حكم التبعية وإن أفردت بالعقد . وعنه في رواية : لا يجوز . وبذلك قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث . وهو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها .
الخامسة : ومما يتعلق بهذا الباب النهي عن
بيع الملاقح ; والملاقح الفحول من الإبل ، الواحد ملقح . والملاقح أيضا الإناث التي في بطونها أولادها ، الواحدة ملقحة ( بفتح القاف ) .
والملاقيح ما في بطون النوق من الأجنة ، الواحدة ملقوحة ; من قولهم : لقحت ; كالمحموم من حم ، والمجنون من جن . وفي هذا جاء النهي .
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=839486نهى عن المجر [ ص: 17 ] وهو بيع ما في بطون الإناث . ونهى عن المضامين والملاقيح . قال
أبو عبيد : المضامين ما في البطون ، وهي الأجنة . والملاقيح ما في أصلاب الفحول . وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب وغيره . وقيل بالعكس : إن المضامين ما في ظهور الجمال ، والملاقيح ما في بطون الإناث . وهو قول
ابن حبيب وغيره . وأي الأمرين كان ، فعلماء المسلمين مجمعون على أن ذلك لا يجوز . وذكر
المزني عن
ابن هشام شاهدا بأن الملاقيح ما في البطون لبعض الأعراب :
منيتي ملاقحا في الأبطن تنتج ما تلقح بعد أزمن
وذكر
الجوهري على ذلك شاهدا قول الراجز :
إنا وجدنا طرد الهوامل خيرا من التأنان والمسائل
وعدة العام وعام قابل ملقوحة في بطن ناب حامل
قوله - تعالى - :
وأنزلنا من السماء أي من السحاب . وكل ما علاك فأظلك يسمى سماء . وقيل : من جهة السماء . ماء أي قطرا . فأسقيناكموه أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم . وقيل : سقى وأسقى بمعنى . وقيل بالفرق ، وقد تقدم .
وما أنتم له بخازنين أي ليست خزائنه عندكم ; أي نحن الخازنون لهذا الماء ننزله إذا شئنا ونمسكه إذا شئنا . ومثله
وأنزلنا من السماء ماء طهورا ،
وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون . وقال
سفيان : لستم بمانعين المطر .