قوله تعالى :
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون
فيه خمس مسائل :
الأولى :
قوله تعالى : ضرب الله مثلا نبه - تعالى - على ضلالة المشركين ، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم .
ضرب الله مثلا أي بين شبها ; ثم ذكر ذلك فقال :
عبدا مملوكا أي كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من
[ ص: 133 ] أمره على شيء ورجل حر قد رزق رزقا حسنا فكذلك أنا وهذه الأصنام . فالذي هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه ، وإنما هو مسخر بإرادة سيده . ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة ; فإن النكرة في الإثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم ، وإنما تفيد واحدا ، فإذا كانت بعد أمر أو نهي أو مضافة إلى مصدر كانت للعموم الشيوعي ; كقوله : أعتق رجلا ولا تهن رجلا ، والمصدر كإعتاق رقبة ، فأي رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب ، ويصح منه الاستثناء . وقال
قتادة : هذا المثل للمؤمن والكافر ; فذهب
قتادة إلى أن العبد المملوك هو الكافر ; لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته ، وإلى أن معنى
ومن رزقناه منا رزقا حسنا المؤمن . والأول عليه الجمهور من أهل التأويل . قال
الأصم : المراد بالعبد المملوك الذي ربما يكون أشد من مولاه أسرا وأنضر وجها ، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه ; فقال الله - تعالى - ضربا للمثال . أي فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم فكيف جعلتم أحجارا مواتا شركاء لله - تعالى - في خلقه وعبادته ، وهي لا تعقل ولا تسمع .
الثانية : فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك ، وأنه لا يملك شيئا وإن ملك . قال
أهل العراق : الرق ينافي الملك ، فلا يملك شيئا ألبتة بحال ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في الجديد ، وبه قال
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين . ومنهم من قال : يملك إلا أنه ناقص الملك ، لأن لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء ، وهو قول
مالك ومن اتبعه ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في القديم . وهو قول
أهل الظاهر ; ولهذا قال أصحابنا :
لا تجب عليه عبادة الأموال من زكاة وكفارات ، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك . وفائدة هذه المسألة أن سيده لو ملكه جارية جاز له أن يطأها بملك اليمين ، ولو
ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها لأنها ملك غيره ، ولا على العبد لأن ملكه غير مستقر .
والعراقي يقول : لا يجوز له أن يطأ الجارية ، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت . ودلائل هذه المسألة للفريقين في كتب الخلاف . وأدل دليل لنا قوله - تعالى - :
الله الذي خلقكم ثم رزقكم فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق . وقال - عليه السلام - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835444من أعتق عبدا وله مال . . . فأضاف المال إليه . وكان
ابن عمر يرى عبده يتسرى
[ ص: 134 ] في ماله فلا يعيب عليه ذلك . وروي عن
ابن عباس أن
عبدا له طلق امرأته طلقتين فأمره أن يرتجعها بملك اليمين ; فهذا دليل على أنه يملك ما بيده ويفعل فيه ما يفعل المالك في ملكه ما لم ينتزعه سيده . والله أعلم .
الثالثة : وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن
طلاق العبد بيد سيده ، وعلى أن بيع الأمة طلاقها ; معولا على قوله - تعالى - :
لا يقدر على شيء . قال : فظاهره يفيد أنه لا يقدر على شيء أصلا ، لا على الملك ولا على غيره فهو على عمومه ، إلا أن يدل دليل على خلافه . وفيما ذكرناه عن
ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ما يدل على التخصيص . والله - تعالى - أعلم .
الرابعة : قال
أبو منصور في عقيدته : الرزق ما وقع الاغتذاء به . وهذه الآية ترد هذا التخصيص ; وكذلك قوله - تعالى - :
ومما رزقناهم ينفقون . و
أنفقوا مما رزقناكم وغير ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835445جعل رزقي تحت ظل رمحي وقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500163أرزاق أمتي في سنابك خيلها وأسنة رماحها . فالغنيمة كلها رزق ، وكل ما صح به الانتفاع فهو رزق ، وهو مراتب : أعلاها ما يغذي . وقد حصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوه الانتفاع في قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835446يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت . وفي معنى اللباس يدخل الركوب وغير ذلك . وفي ألسنة المحدثين : السماع رزق ، يعنون سماع الحديث ، وهو صحيح .
الخامسة :
قوله تعالى : ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هو المؤمن ، يطيع الله في نفسه وماله . والكافر ما لم ينفق في الطاعة صار كالعبد الذي لا يملك شيئا .
هل يستوون أي لا يستوون ، ولم يقل يستويان لمكان من لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع
[ ص: 135 ] والمذكر والمؤنث . وقيل : إن
عبدا مملوكا ،
ومن رزقناه أريد بهما الشيوع في الجنس .
الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون أي هو مستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه ; إذ لا نعمة للأصنام عليهم من يد ولا معروف فتحمد عليه ، إنما الحمد الكامل لله ; لأنه المنعم الخالق .
بل أكثرهم أي أكثر المشركين .
لا يعلمون أن الحمد لي ، وجميع النعمة مني . وذكر الأكثر وهو يريد الجميع ، فهو خاص أريد به التعميم . وقيل : أي بل أكثر الخلق لا يعلمون ، وذلك أن أكثرهم المشركون .