قوله تعالى : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : أخبر الله - تعالى - في الآية التي قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل ، لا لأنه يقبح منه ذلك إن فعل ، ولكنه وعد منه ، ولا خلف في وعده . فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قاله - تعالى - أمر مترفيها بالفسق والظلم فيها فحق عليها القول بالتدمير . يعلمك أن
[ ص: 210 ] من هلك هلك بإرادته ، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله - تعالى - .
الثانية : قوله تعالى : أمرنا قرأ
أبو عثمان النهدي وأبو رجاء nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبو العالية ،
والربيع ومجاهد والحسن أمرنا بالتشديد ، وهي قراءة
علي - رضي الله عنه - ; أي سلطنا شرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم . وقال
أبو عثمان النهدي أمرنا بتشديد الميم ، جعلناهم أمراء مسلطين ; وقاله
ابن عزيز . وتأمر عليهم تسلط عليهم . وقرأ
الحسن أيضا
وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن
نافع nindex.php?page=showalam&ids=15744وحماد بن سلمة عن
ابن كثير وعلي nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس باختلاف عنهما " آمرنا " بالمد والتخفيف ، أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها ; قاله
الكسائي . وقال
أبو عبيدة : آمرته بالمد وأمرته ، لغتان بمعنى كثرته ; ومنه الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=835495خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة أي كثيرة النتاج والنسل . وكذلك قال
ابن عزيز : آمرنا وأمرنا بمعنى واحد ; أي أكثرنا . وعن
الحسن أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=17344ويحيى بن يعمر " أمرنا " بالقصر وكسر الميم على فعلنا ، ورويت عن
ابن عباس . قال
قتادة والحسن : المعنى أكثرنا ; وحكى نحوه
أبو زيد وأبو عبيد ، وأنكره
الكسائي وقال : لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد ; قال وأصلها " أأمرنا " فخفف ، حكاه
المهدوي . وفي الصحاح : وقال
أبو الحسن أمر ماله ( بالكسر ) أي كثر . وأمر القوم أي كثروا ; قال الشاعر :
أمرون لا يرثون سهم القعدد
وآمر الله ماله : ( بالمد ) :
الثعلبي : ويقال للشيء الكثير أمر ، والفعل منه : أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا . قال
ابن مسعود : كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا : أمر أمر بني فلان ; قال
لبيد :
كل بني حر مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للهلك والنكد
قلت : وفي حديث
هرقل الحديث الصحيح : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=835496لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليخافه ملك بني الأصفر ) أي كثر . وكله غير متعد ولذلك أنكره
الكسائي ، والله أعلم . قال
المهدوي : ومن قرأ " أمر " فهي لغة ، ووجه تعدية " أمر " أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء
[ ص: 211 ] إلى العمارة ، فعدي كما عدي عمر . الباقون أمرنا من الأمر ; أي أمرناهم بالطاعة إعذارا وإنذارا وتخويفا ووعيدا .
ففسقوا أي فخرجوا عن الطاعة عاصين لنا .
فحق عليها القول فوجب ، عليها الوعيد ; عن
ابن عباس .
وقيل : أمرنا جعلناهم أمراء ; لأن العرب تقول : أمير غير مأمور ، أي غير مؤمر . وقيل : معناه بعثنا مستكبريها . قال
هارون : وهي قراءة أبي " بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا " ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي . وحكى
النحاس : وقال
هارون في قراءة
أبي " وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول . ويجوز أن يكون أمرنا بمعنى أكثرنا ; ومنه (
nindex.php?page=hadith&LINKID=835497خير المال مهرة مأمورة ) على ما تقدم . وقال قوم : مأمورة اتباع لمأبورة ; كالغدايا والعشايا . وكقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835498ارجعن مأزورات غير مأجورات . وعلى هذا لا يقال : أمرهم الله ، بمعنى كثرهم ، بل يقال : آمره وأمره . واختار
أبو عبيد وأبو حاتم قراءة العامة . قال
أبو عبيد : وإنما اخترنا " أمرنا " لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها من الأمر والإمارة والكثرة . والمترف : المنعم ; وخصوا بالأمر لأن غيرهم تبع لهم .
الثالثة : قوله تعالى : فدمرناها أي أستأصلناها بالهلاك . " تدميرا " وذكر المصدر للمبالغة في العذاب الواقع بهم . وفي الصحيح من حديث
زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500166خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فزعا محمرا وجهه يقول : لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها . قالت : فقلت يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث . وقد تقدم الكلام في هذا الباب ، وأن المعاصي إذا ظهرت ولم تغير كانت سببا لهلاك الجميع ; والله أعلم .