قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا [ ص: 272 ] فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى :
أقم الصلاة لدلوك الشمس لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه - عليه السلام - بالصبر والمحافظة على الصلاة ، وفيها طلب النصر على الأعداء . ومثله
ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . وتقدم القول في معنى إقامة الصلاة في أول سورة البقرة . وهذه الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة . واختلف العلماء في الدلوك على قولين : أحدهما - أنه زوال الشمس عن كبد السماء ; قاله
عمر وابنه
nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم . الثاني - أن الدلوك هو الغروب ; قاله
علي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب ، وروي عن
ابن عباس . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي : من جعل الدلوك اسما لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب ، ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها . وقال
أبو عبيد : دلوكها غروبها . ودلكت براح يعني الشمس ; أي غابت وأنشد
قطرب :
هذا مقام قدمي رباح ذبب حتى دلكت براح
براح بفتح الباء على وزن حزام وقطام ورقاش اسم من أسماء الشمس . ورواه
الفراء بكسر الباء وهو جمع راحة وهي الكف ; أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه . ومنه قول
العجاج :
والشمس قد كادت تكون دنفا أدفعها بالراح كي تزحلفا
قال
ابن الأعرابي : الزحلوفة مكان منحدر أملس ، لأنهم يتزحلفون فيه . قال : والزحلفة كالدحرجة والدفع ; يقال : زحلفته فتزحلف . ويقال : دلكت الشمس إذا غابت . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذو الرمة :
مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك
قال
ابن عطية : الدلوك هو الميل - في اللغة - فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب . ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا ، لأنها في حالة ميل . فذكر الله - تعالى - الصلوات التي تكون في حالة الدلوك وعنده ; فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب ، ويصح أن تكون المغرب داخلة في غسق الليل . وقد ذهب قوم إلى أن
صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب ; لأنه سبحانه علق وجوبها على الدلوك ، وهذا دلوك كله ; قاله
الأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة في تفصيل . وأشار إليه
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في حالة الضرورة .
[ ص: 273 ] الثانية : قوله تعالى :
إلى غسق الليل روى
مالك عن
ابن عباس قال : دلوك الشمس ميلها ، وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته . وقال
أبو عبيدة : الغسق سواد الليل . قال
ابن قيس الرقيات :
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وقد قيل : غسق الليل مغيب الشفق . وقيل : إقبال ظلمته . قال
زهير :
ظلت تجود يدها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق
يقال : غسق الليل غسوقا . والغسق اسم بفتح السين . وأصل الكلمة من السيلان ; يقال : غسقت العين إذا سالت ، تغسق . وغسق الجرح غسقانا ، أي سال منه ماء أصفر . وأغسق المؤذن ، أي أخر المغرب إلى غسق الليل . وحكى
الفراء : غسق الليل وأغسق ، وظلم وأظلم ، ودجا وأدجى ، وغبس وأغبس ، وغبش وأغبش . وكان
الربيع بن خثيم يقول لمؤذنه في يوم غيم : أغسق أغسق . يقول : أخر المغرب حتى يغسق الليل ، وهو إظلامه .
الثالثة : اختلف العلماء في
آخر وقت المغرب ; فقيل : وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس ، وذلك بين في إمامة
جبريل ; فإنه صلاها باليومين لوقت واحد وذلك غروب الشمس ، وهو الظاهر من مذهب
مالك عند أصحابه . وهو أحد قولي
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في المشهور عنه أيضا وبه قال
الثوري . وقال
مالك في الموطأ : فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب ودخل
وقت العشاء . وبهذا قال
أبو حنيفة وأصحابه
nindex.php?page=showalam&ids=14117والحسن بن حي وأحمد وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور وداود ; لأن وقت الغروب إلى الشفق غسق كله . ولحديث
أبي موسى ، وفيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخر حتى كان عند سقوط الشفق . خرجه
مسلم . قالوا : وهذا أولى من أخبار إمامة
جبريل ; لأنه متأخر
بالمدينة وإمامة
جبريل بمكة ،
[ ص: 274 ] والمتأخر أولى من فعله وأمره ; لأنه ناسخ لما قبله . وزعم
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي أن هذا القول هو المشهور من مذهب
مالك ، وقوله في موطئه الذي أقرأه طول عمره وأملاه في حياته . والنكتة في هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها ؟ والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر .
قلت : القول بالتوسعة أرجح . وقد خرج الإمام الحافظ
nindex.php?page=showalam&ids=16390أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث
الأجلح بن عبد الله الكندي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11862أبي الزبير عن
جابر قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835535خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى سرف ، وذلك تسعة أميال . وأما القول بالنسخ فليس بالبين وإن كان التاريخ معلوما ; فإن الجمع ممكن . قال علماؤنا : تحمل أحاديث
جبريل على الأفضلية في وقت المغرب ، ولذلك
اتفقت الأمة فيها على تعجيلها والمبادرة إليها في حين غروب الشمس . قال
ابن خويز منداد : ولا نعلم أحدا من المسلمين تأخر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس . وأحاديث التوسعة تبين وقت الجواز ، فيرتفع التعارض ويصح الجمع ، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين ; لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين ، والقول بالنسخ أو الترجيح فيه إسقاط أحدهما . والله أعلم .
الرابعة : قوله تعالى :
وقرآن الفجر انتصب قرآن من وجهين : أحدهما أن يكون معطوفا على الصلاة ; المعنى : وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح ; قاله
الفراء . وقال
أهل البصرة . انتصب على الإغراء ; أي فعليك بقرآن الفجر ; قاله
الزجاج . وعبر عنها بالقرآن خاصة دون غيرها من الصلوات ; لأن القرآن هو أعظمها ، إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور ; عن
الزجاج أيضا .
قلت : وقد استقر عمل
المدينة على استحباب
إطالة القراءة في الصبح قدرا لا يضر بمن خلفه - يقرأ فيها بطوال المفصل ، ويليها في ذلك الظهر والجمعة - وتخفيف
القراءة في المغرب وتوسطها في العصر والعشاء . وقد قيل في العصر : إنها تخفف كالمغرب . وأما ما ورد في صحيح
مسلم وغيره من الإطالة فيما استقر فيه التقصير ، أو من التقصير فيما استقرت فيه الإطالة ; كقراءته في الفجر المعوذتين - كما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي - وكقراءة الأعراف والمرسلات
[ ص: 275 ] والطور في المغرب ، فمتروك بالعمل . ولإنكاره على
معاذ التطويل ، حين أم قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة . خرجه الصحيح . وبأمره الأئمة بالتخفيف فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=839743أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة . وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835536فإذا صلى أحدكم وحده فليطول ما شاء . كله مسطور في صحيح الحديث .
الخامسة : قوله تعالى :
وقرآن الفجر دليل على أن لا صلاة إلا بقراءة ; لأنه سمى الصلاة قرآنا . وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة فذهب جمهورهم إلى وجوب
قراءة أم القرآن للإمام والفذ في كل ركعة . وهو مشهور قول
مالك . وعنه أيضا أنها واجبة في جل الصلاة . وهو قول
إسحاق . وعنه أيضا تجب في ركعة واحدة ; قاله
المغيرة nindex.php?page=showalam&ids=15968وسحنون . وعنه أن القراءة لا تجب في شيء من الصلاة . وهو أشذ الروايات عنه . وحكي عن
مالك أيضا أنها تجب في نصف الصلاة ، وإليه ذهب
الأوزاعي . وعن
الأوزاعي أيضا
وأيوب أنها تجب على الإمام والفذ والمأموم على كل حال . وهو أحد قولي
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وقد مضى في [ الفاتحة ] مستوفى .
قوله تعالى : السادسة : كان مشهودا روى
الترمذي عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله :
وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835537تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار هذا حديث حسن صحيح . ورواه
علي بن مسهر عن
الأعمش عن
أبي صالح عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835538فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح . يقول
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم
وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . ولهذا المعنى أيضا قال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : التغليس بالصبح أفضل . وقال
أبو [ ص: 276 ] حنيفة : الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار ، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس . وهذا مخالف لما كان - عليه السلام - يفعله من المداومة على التغليس ، وأيضا فإن فيه تفويت شهود ملائكة الليل . والله أعلم .
السابعة : استدل بعض العلماء بقوله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835537تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار على أن
صلاة الصبح ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار .
قلت : وعلى هذا فلا تكون صلاة العصر أيضا لا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار ; فإن في الصحيح عن النبي الفصيح - عليه السلام - فيما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=835323يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر الحديث . ومعلوم أن صلاة العصر من النهار فكذلك تكون صلاة الفجر من الليل وليس كذلك ، وإنما هي من النهار كالعصر بدليل الصيام والإيمان ، وهذا واضح .