قوله :
فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا قوله تعالى : فأتت به قومها تحمله روي أن
مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات ، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها ، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه . قال
ابن عباس : خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس ، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله ، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار . وقال
الكلبي : ولدت حيث لم يشعر بها قومها ، ومكثت أربعين يوما للنفاس ، ثم أتت قومها تحمله ، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين ؛ فقالوا منكرين :
لقد جئت شيئا فريا أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشيء يفتريه . قال
مجاهد : فريا عظيما . وقال
سعيد بن مسعدة : أي مختلقا مفتعلا ؛ يقال : فريت وأفريت بمعنى واحد . والولد من الزنا كالشيء المفترى . قال الله تعالى :
ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن أي بولد بقصد إلحاقه بالزوج وليس منه . يقال : فلان يفري الفري أي يعمل العمل البالغ ، وقال
أبو عبيدة : الفري العجيب النادر ، وقاله
الأخفش قال : فريا عجيبا . والفري القطع كأنه مما يخرق العادة ، أو يقطع القول بكونه عجيبا نادرا . وقال
قطرب : الفري الجديد من الأسقية ؛ أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه . وقرأ
أبو حيوة : ( شيئا فريا ) بسكون الراء .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي nindex.php?page=showalam&ids=17285ووهب بن منبه : لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك
بنو إسرائيل ، فاجتمع رجالهم ونساؤهم ، فمدت امرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحملت كذلك . وقال آخر : ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى ؛
[ ص: 27 ] فتحامى الناس من أن يضربوها ، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها ، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون ؛ فقالوا :
يا مريم لقد جئت شيئا فريا أي عظيما قال
الراجز :
قد أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا
قد كنت تفرين به الفريا
أي تعظيمنه .
قوله تعالى : يا أخت هارون اختلف الناس في معنى هذه الأخوة ومن
هارون ؟ فقيل : هو
هارون أخو
موسى ؛ والمراد من كنا نظنها مثل
هارون في العبادة تأتي بمثل هذا . وقيل : على هذا كانت
مريم من ولد
هارون أخي
موسى فنسبت إليه بالأخوة ؛ لأنها من ولده ؛ كما يقال للتميمي : يا أخا
تميم وللعربي يا أخا العرب ، وقيل : كان لها أخ من أبيها اسمه
هارون ؛ لأن هذا الاسم كان كثيرا في
بني إسرائيل تبركا باسم
هارون أخي
موسى ، وكان أمثل رجل في
بني إسرائيل ؛ قاله
الكلبي .
وقيل :
هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه
هارون . وقال
قتادة : كان في ذلك الزمان في
بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله - عز وجل - يسمى
هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل ؛ إذ كانت موقوفة على خدمة البيع ؛ أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لذلك . وقال
كعب الأحبار بحضرة
عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - : إن
مريم ليست بأخت
هارون أخي
موسى ؛ فقالت له
عائشة : كذبت . فقال لها : يا أم المؤمنين إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله فهو أصدق وأخبر ، وإلا فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة . قال : فسكتت .
وفي صحيح
مسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=832048عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني فقال إنكم تقرءون ( يا أخت هارون ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألته عن ذلك ، فقال : إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم . وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن
النصارى قالوا له : إن صاحبك يزعم أن
مريم هي أخت
هارون وبينهما في المدة ستمائة سنة ؟ ! قال
المغيرة : فلم أدر ما أقول ؛ وذكر الحديث . والمعنى أنه اسم وافق اسما . ويستفاد من هذا جواز
التسمية بأسماء الأنبياء ؛ والله أعلم .
[ ص: 28 ] قلت : فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين
موسى وعيسى وهارون زمان مديد .
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن
مريم كانت أخت
موسى وهارون ؛ وإن صح فكما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي لأنها كانت من نسله ؛ وهذا كما تقول للرجل من قبيلة : يا أخا فلان . ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832049إن أخا صداء قد أذن فمن أذن فهو يقيم وهذا هو القول الأول .
ابن عطية : وقالت فرقة : بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه
هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ ؛ ذكره
الطبري ولم يسم قائله .
قلت : ذكره
الغزنوي عن
سعيد بن جبير أنه كان فاسقا مثلا في الفجور فنسبت إليه . والمعنى : ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها ؟ ! وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح . وذلك يوجب عندنا الحد وسيأتي في سورة ( النور ) القول فيه إن شاء الله تعالى . وهذا القول الأخير يرده الحديث الصحيح ، وهو نص صريح فلا كلام لأحد معه ، ولا غبار عليه . والحمد لله . وقرأ
عمر بن لجأ التيمي ( ما كان أباك امرؤ سوء ) .