قوله : قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى :
قال فما بال البال الحال ؛ أي وما حالها وما شأنها ، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى ، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه ، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو ، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم إلا ما أخبرني به علام الغيوب ، وعلم
أحوال القرون مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ . وقيل : المعنى فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك . أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك . وقيل : إنما سأل عن أعمال القرون الأولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى ، ومحفوظة عنده في كتاب . أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدا بها وعليها . وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ . وقيل : هو كتاب مع بعض الملائكة .
الثانية : هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على
تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى . فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان . وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه . وروينا بالإسناد المتصل عن
قتادة أنه قيل له : أنكتب ما نسمع منك ؟ قال : وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب ؛ فقال :
علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى .
[ ص: 124 ] وفي صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830157لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده : إن رحمتي تغلب غضبي . وأسند
الخطيب أبو بكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=832122كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه ؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعن بيمينك وأومأ إلى الخط وهذا نص . وعلى جواز
كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين ؛ وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج
لأبي شاه - رجل من
اليمن - لما سأله كتبها . أخرجه
مسلم . وروى
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832123قيدوا العلم بالكتابة . وقال
معاوية بن قرة : من لم يكتب العلم لم يعد علمه علما . وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب ؛ فروى
أبو نصرة قال : قيل
لأبي سعيد : أنكتب حديثكم هذا ؟ قال : لم تجعلونه قرآنا ؟ ولكن احفظوا كما حفظنا . وممن كان لا يكتب
الشعبي nindex.php?page=showalam&ids=17419ويونس بن عبيد nindex.php?page=showalam&ids=15804وخالد الحذاء - قال
خالد ما كتبت شيئا قط إلا حديثا واحدا ، فلما حفظته محوته -
nindex.php?page=showalam&ids=16453وابن عون nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري . وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه ؛ منهم
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17240هشام بن حسان : ما كتبت حديثا قط إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته .
قلت : وقد ذكرنا عن
خالد الحذاء مثل هذا . وحديث
الأعماق خرجه
مسلم في آخر الكتاب :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832124لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو - بدابق الحديث ذكره في كتاب الفتن . وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ ، منهم
الأعمش nindex.php?page=showalam&ids=16410وعبد الله بن إدريس وهشيم وغيرهم . وهذا احتياط على الحفظ . والكتب أولى على الجملة ، وبه وردت الآي والأحاديث ؛ وهو مروي عن
عمر وعلي وجابر وأنس - رضي الله عنهم ، ومن يليهم من كبراء
[ ص: 125 ] التابعين
كالحسن nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير ، ومن بعدهم من أهل العلم ؛ قال الله تعالى :
وكتبنا له في الألواح من كل شيء . وقال تعالى :
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . وقال تعالى :
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة الآية . وقال تعالى :
وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر .
قال علمها عند ربي في كتاب إلى غير هذا من الآي .
وأيضا فإن
العلم لا يضبط إلا بالكتاب ، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا ، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الأول لقرب العهد ، وتقارب الإسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله ، أو يرغب عن حفظه والعمل به ؛ فأما والوقت متباعد ، والإسناد غير متقارب ، والطرق مختلفة ، والنقلة متشابهون ، وآفة النسيان معترضة ، والوهم غير مأمون ؛ فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى ، والدليل على وجوبه أقوى ؛ فإن احتج محتج بحديث
أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832125لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه خرجه
مسلم ؛ فالجواب أن ذلك كان متقدما ؛ فهو منسوخ بأمره بالكتاب ، وإباحتها
لأبي شاه وغيره . وأيضا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه . وكذا ما روي عن
أبي سعيد أيضا - حرصنا أن يأذن لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتابة فأبى - إن كان محفوظا فهو قبل الهجرة ، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن .
الثالثة : قال
أبو بكر الخطيب : ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد ؛ ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان ، والحبر أبقاها على مر الدهور . وهو آلة ذوي العلم ، وعدة أهل المعرفة . ذكر
عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال : رآني
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه ؛ فقال لم تخفيه وتستره ؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد ، وفي البصائر بياض . وقال
خالد بن زيد : الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق في ثوب العروس . وأخذ هذا المعنى
أبو عبد الله البلوي فقال :
[ ص: 126 ] مداد المحابر طيب الرجال وطيب النساء من الزعفران
فهذا يليق بأثواب ذا
وهذا يليق بثوب الحصان
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي أن
عبد الله بن سليمان فيما حكي ؛ رأى على بعض ثيابه أثر صفرة ؛ فأخذ من مداد الدواة وطلاه به ، ثم قال : المداد بنا أحسن من الزعفران ؛ وأنشد :
إنما الزعفران عطر العذارى ومداد الدوي عطر الرجال
الرابعة :
قوله تعالى : لا يضل ربي ولا ينسى اختلف في معناه على أقوال خمسة : الأول : إنه ابتداء كلام ، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين ، وقد كان الكلام تم في قوله :
في كتاب . وكذا قال
الزجاج ، وأن معنى لا يضل لا يهلك من قوله :
أئذا ضللنا في الأرض .
ولا ينسى شيئا ؛ نزهه عن الهلاك والنسيان . القول الثاني : لا يضل لا يخطئ ؛ قاله
ابن عباس ؛ أي لا يخطئ في التدبير ، فمن أنظره فلحكمة أنظره ، ومن عاجله فلحكمة عاجله . القول الثالث : لا يضل لا يغيب . قال
ابن الأعرابي : أصل الضلال الغيبوبة ؛ يقال : ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء . قال : ومعنى
لا يضل ربي ولا ينسى أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء . القول الرابع : قاله
الزجاج أيضا وقال
النحاس أشبهها بالمعنى : - أخبر الله - عز وجل - أنه لا يحتاج إلى كتاب ؛ والمعنى لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها ، ولا ينسى ما علمه منها .
قلت : وهذا القول راجع إلى معنى قول
ابن الأعرابي . وقول خامس : إن
لا يضل ربي ولا ينسى في موضع الصفة ل ( كتاب ) أي الكتاب غير ضال عن الله - عز وجل - ؛ أي غير ذاهب عنه .
ولا ينسى أي غير ناس له فهما نعتان ل " كتاب " . وعلى هذا يكون الكلام متصلا ، ولا يوقف على كتاب . تقول العرب . ضلني الشيء إذا لم أجده ، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم أجده فيه . وقرأ
الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى
شبل عنه ( لا يضل ) بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه . قال
ابن عرفة : الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد ؛ يقال : ضل عن الطريق ، وأضل الشيء إذا أضاعه . ومنه قرأ من قرأ
لا يضل ربي أي لا يضيع ؛ هذا مذهب العرب .