قوله :
فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى قوله تعالى : فتنازعوا أمرهم بينهم أي تشاوروا ؛ يريد السحرة .
وأسروا النجوى قال
قتادة : قالوا إن كان ما جاء به سحرا فسنغلبه ، وإن كان من عند الله
[ ص: 133 ] فسيكون له أمر ؛ وهذا الذي أسروه . وقيل الذي أسروا قولهم :
إن هذان لساحران الآية قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ومقاتل . وقيل الذي أسروا قولهم : إن غلبنا اتبعناه ؛ قاله
الكلبي ؛ دليله ما ظهر من عاقبة أمرهم . وقيل : كان سرهم أن قالوا حين قال لهم
موسى :
ويلكم لا تفتروا على الله كذبا : ما هذا بقول ساحر . و
النجوى المناجاة يكون اسما ومصدرا . وقد تقدم في ( النساء ) بيانه .
قوله تعالى : قالوا إن هذان لساحران قرأ
أبو عمر ( إن هذين لساحران ) . ورويت عن
عثمان nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة - رضي الله عنهما - وغيرهما من الصحابة ؛ وكذلك قرأ
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين ؛ ومن القراء
عيسى بن عمر وعاصم الجحدري ؛ فيما ذكر
النحاس . وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف . وقرأ
الزهري nindex.php?page=showalam&ids=14248والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية
حفص عنه
إن هذان بتخفيف ( إن ) ( لساحران )
وابن كثير يشدد نون ( هذان ) . وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب ، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران . وقرأ المدنيون والكوفيون ( إن هذان ) بتشديد ( إن ) ( لساحران ) فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب . قال
النحاس فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الأئمة ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود أنه قرأ ( إن هذان إلا ساحران ) وقال
الكسائي في قراءة
عبد الله : ( إن هذان ساحران ) بغير لام ؛ وقال
الفراء في حرف
أبي ( إن ذان إلا ساحران ) فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف .
قلت : وللعلماء في قراءة أهل
المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها
ابن الأنباري في آخر كتاب الرد له ،
والنحاس في إعرابه ،
والمهدوي في تفسيره ، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض . وقد خطأها قوم حتى قال
أبو عمرو : إني لأستحي من الله أن أقرأ ( إن هذان ) وروى
عروة عن
عائشة - رضي الله عنها - أنها سئلت عن قوله تعالى :
لكن الراسخون في العلم ثم قال :
والمقيمين وفي ( المائدة )
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون و (
إن هذان لساحران ) فقالت يا ابن أختي ! هذا خطأ من الكاتب . وقال
عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11795أبان بن عثمان : قرأت هذه الآية عند أبي
عثمان بن عفان ، فقال لحن وخطأ ؛ فقال له قائل : ألا تغيروه ؟ فقال : دعوه فإنه لا يحرم
[ ص: 134 ] حلالا ولا يحلل حراما . القول الأول من الأقوال الستة أنها لغة
بني الحارث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالألف ؛ يقولون : جاء الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان ، ومنه قوله تعالى :
ولا أدراكم به على ما تقدم . وأنشد
الفراء لرجل من
بني أسد - قال : وما رأيت أفصح منه :
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى مساغا لناباه الشجاع لصمما
ويقولون : كسرت يداه وركبت علاه ؛ يديه وعليه ؛ قال شاعرهم [
هوبر الحارثي ] :
تزود منا بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التراب عقم
وقال آخر :
طاروا علاهن فطر علاها
أي عليهن وعليها .
وقال آخر :
إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها
أي إن أبا أبيها وغايتيها . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12940أبو جعفر النحاس : وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية ؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة ، وقد حكاها من يرتضى بعلمه وأمانته ؛ منهم
أبو زيد الأنصاري وهو الذي يقول : إذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه حدثني من أثق به فإنما يعنيني ؛
وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة
بني الحارث بن كعب . وحكى
أبو عبيدة عن
أبي الخطاب أن هذه لغة
بني كنانة .
المهدوي : وحكى غيره أنها لغة
لخثعم . قال
النحاس ومن أبين ما في هذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : واعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين ، الأولى منهما حرف مد ولين وهو حرف الإعراب ؛ قال
أبو جعفر فقول
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : وهو حرف الإعراب ، يوجب أن الأصل ألا يتغير ، فيكون ( إن هذان ) جاء على أصله ليعلم ذلك ، وقد قال تعالى :
استحوذ عليهم الشيطان ولم يقل استحاذ ؛ فجاء هذا ليدل على الأصل ، وكذلك ( إن هذان ) ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذا كان الأئمة قد رووها . القول الثاني أن يكون ( إن ) بمعنى نعم ؛ كما حكى
الكسائي عن
عاصم قال : العرب تأتي ب إن بمعنى نعم ، وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه أن ( إن ) تأتي
[ ص: 135 ] بمعنى أجل ، وإلى هذا القول كان
محمد بن يزيد nindex.php?page=showalam&ids=12425وإسماعيل بن إسحاق القاضي يذهبان ؛ قال
النحاس : ورأيت
nindex.php?page=showalam&ids=14416أبا إسحاق الزجاج nindex.php?page=showalam&ids=15190وعلي بن سليمان يذهبان إليه .
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وقد أعجب به
أبو إسحاق .
النحاس : وحدثنا
علي بن سليمان ، قال حدثنا
عبد الله بن أحمد بن عبد السلام النيسابوري ، ثم لقيت
عبد الله بن أحمد فحدثني ، قال حدثني
عمير بن المتوكل ، قال حدثنا
محمد بن موسى النوفلي من ولد حارث بن عبد المطلب ، قال حدثنا
عمر بن جميع الكوفي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15639جعفر بن محمد عن أبيه عن
علي - وهو ابن الحسين - عن أبيه عن
علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين ، قال :
لا أحصي كم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على منبره : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ثم يقول : أنا أفصح قريش كلها وأفصحها بعدي nindex.php?page=showalam&ids=11786أبان بن سعيد بن العاص قال
أبو محمد الخفاف قال
عمير : إعرابه عند أهل العربية والنحو
nindex.php?page=hadith&LINKID=832126إن الحمد لله بالنصب إلا أن العرب تجعل ( إن ) في معنى نعم كأنه أراد - صلى الله عليه وسلم - ؛ نعم الحمد لله ؛ وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح خطبها بنعم . وقال الشاعر في معنى نعم :
قالوا غدرت فقلت إن وربما نال العلا وشفى الغليل الغادر
وقال
عبد الله بن قيس الرقيات :
بكر العواذل في الصبا ح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه
فعلى هذا جائز أن يكون قول الله - عز وجل - :
إن هذان لساحران بمعنى نعم ولا تنصب . قال
النحاس : أنشدني
داود بن الهيثم ، قال : أنشدني
ثعلب :
ليت شعري هل للمحب شفاء من جوى حبهن إن اللقاء
قال
النحاس : وهذا قول حسن إلا أن فيه شيئا لأنه إنما يقال : نعم زيد خارج ، ولا تكاد تقع اللام هاهنا ، وإن كان النحويون قد تكلموا في ذلك فقالوا : اللام ينوى بها التقديم ؛ كما قال :
خالي لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكرم الأخوالا
[ ص: 136 ] آخر :
أم الحليس لعجوز شهربه ترضى من الشاة بعظم الرقبه
أي لخالي
ولأم الحليس ؛ وقال
الزجاج : والمعنى في الآية إن هذان لهما ساحران ثم حذف المبتدأ .
المهدوي : وأنكره
أبو علي وأبو الفتح بن جني . قال
أبو الفتح : ( هما ) المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عرف ، وإذا كان معروفا فقد استغني بمعرفته عن تأكيده باللام ، ويقبح أن تحذف المؤكد وتترك المؤكد . القول الثالث قال
الفراء أيضا : وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها كما قلت : ( الذي ) ثم زدت عليه نونا فقلت : جاءني الذين عندك ، ورأيت الذين عندك ، ومررت بالذين عندك القول الرابع قاله بعض
الكوفيين قال : الألف في ( هذان ) مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير . القول الخامس : قال
أبو إسحاق : النحويون القدماء يقولون الهاء هاهنا مضمرة ، والمعنى إنه هذان لساحران ؛ قال
ابن الأنباري : فأضمرت الهاء التي هي منصوب ( إن ) و ( هذان ) خبر ( إن ) و ( ساحران ) يرفعها ( هما ) المضمر ، والتقدير : إنه هذان لهما ساحران . والأشبه عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم ( إن ) و ( هذان ) رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء . القول السادس قال
nindex.php?page=showalam&ids=12940أبو جعفر النحاس وسألت
nindex.php?page=showalam&ids=13471أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية ، فقال : إن شئت أجبتك بجواب النحويين ، وإن شئت أجبتك بقولي ؛ فقلت بقولك ؛ فقال : سألني
إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت . القول عندي أنه لما كان يقال ( هذا ) في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة ، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحدة ؛ فقال ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول به حتى يؤنس به ؛ قال
ابن كيسان : فقلت له : فيقول القاضي به حتى يؤنس به ؛ فتبسم .
قوله تعالى : يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى هذا من قول
فرعون للسحرة ؛ أي غرضهما إفساد دينكم الذي أنتم عليه ؛ كما قال
فرعون :
إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد . ويقال : فلان حسن الطريقة أي حسن المذهب . وقيل : طريقة القوم أفضل القول ؛ وهذا الذي ينبغي أن يسلكوا طريقته ويقتدوا به ؛ فالمعنى : ويذهبا بسادتكم ورؤسائكم ؛ استمالة لهم . أو يذهبا
ببني إسرائيل وهم الأماثل وإن كانوا خولا لكم لما يرجعون إليه من الانتساب إلى الأنبياء . أو يذهبا بأهل طريقتكم فحذف المضاف . و
المثلى تأنيث الأمثل ؛ كما يقال الأفضل والفضلى . وأنث الطريقة على اللفظ ، وإن كان يراد بها الرجال . ويجوز أن يكون التأنيث
[ ص: 137 ] على الجماعة . وقال
الكسائي : بطريقتكم بسنتكم وسمتكم . والمثلى نعت كقولك امرأة كبرى . تقول العرب : فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم .
قوله تعالى : فأجمعوا كيدكم الإجماع الإحكام والعزم على الشيء . تقول : أجمعت الخروج وعلى الخروج أي عزمت . وقراءة كل الأمصار فأجمعوا إلا
أبا عمرو فإنه قرأ ( فاجمعوا ) بالوصل وفتح الميم . واحتج بقوله :
فجمع كيده ثم أتى . قال
النحاس وفيما حكي لي عن
محمد بن يزيد أنه قال : يجب على
أبي عمرو أن يقرأ بخلاف قراءته هذه ، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس . قال : لأنه احتج ب ( جمع ) وقوله - عز وجل - :
فجمع كيده قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده ( فاجمعوا ) ويقرب أن يكون بعده فأجمعوا أي اعزموا وجدوا ؛ ولما تقدم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه يقال : أمر مجمع ومجمع عليه . قال
النحاس : ويصحح قراءة
أبي عمرو ( فاجمعوا ) أي اجمعوا كل كيد لكم وكل حيلة فضموه مع أخيه . وقاله
أبو إسحاق .
الثعلبي : القراءة بقطع الألف وكسر الميم لها وجهان : أحدهما : بمعنى الجمع ، تقول : أجمعت الشيء جمعته بمعنى واحد ، وفي الصحاح : وأجمعت الشيء جعلته جميعا ؛ قال
أبو ذؤيب يصف حمرا :
فكأنها بالجزع بين نبايع وأولات ذي العرجاء نهب مجمع
أي مجموع . والثاني : أنه بمعنى العزم والإحكام ؛ قال الشاعر :
يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع
أي محكم .
ثم ائتوا صفا قال
مقاتل والكلبي : جميعا . وقيل : صفوفا ليكون أشد لهيبتكم وهو منصوب بوقوع الفعل عليه على قول
أبي عبيدة ؛ قال يقال : أتيت الصف يعني المصلى ؛ فالمعنى عنده ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه يوم العيد . وحكي عن بعض فصحاء العرب : ما قدرت أن آتي الصف ؛ يعني المصلى . وقال
الزجاج : يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون ؛ فيكون على هذا مصدرا في موضع الحال . ولذلك لم يجمع . وقرئ ( ثم ايتوا ) بكسر الميم وياء . ومن ترك الهمزة أبدل من الهمزة ألفا .
وقد أفلح اليوم من استعلى أي من غلب . وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض . وقيل : من قول
فرعون لهم .