قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق [ ص: 36 ] فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى :
وأذن في الناس بالحج قرأ جمهور الناس وأذن بتشديد الذال . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن ( وآذن ) بتخفيف الذال ومد الألف .
ابن عطية : وتصحف هذا على
ابن جني ، فإنه حكى عنهما ( وآذن ) على أنه فعل ماض ، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على بوأنا . والأذان الإعلام ، وقد تقدم في ( براءة ) .
الثانية : لما فرغ
إبراهيم - عليه السلام - من بناء البيت ، وقيل له : أذن في الناس بالحج ، قال : يا رب ! وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلي الإبلاغ ؛ فصعد
إبراهيم خليل الله
جبل أبي قبيس وصاح : يا أيها الناس ! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار ، فحجوا ؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء : لبيك اللهم لبيك ! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة ؛ إن أجاب مرة فمرة ، وإن أجاب مرتين فمرتين ؛ وجرت التلبية على ذلك ؛ قاله
ابن عباس ، nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11871أبي الطفيل قال : قال لي
ابن عباس : أتدري ما كان أصل التلبية ؟ قلت لا ! قال : لما
أمر إبراهيم - عليه السلام - أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رءوسها ورفعت له القرى ؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء : لبيك اللهم لبيك . وقيل : إن الخطاب
لإبراهيم - عليه السلام - تم عند قوله : ( السجود ) ، ثم خاطب الله - عز وجل -
محمدا - عليه الصلاة والسلام - فقال
وأذن في الناس بالحج أي أعلمهم أن عليهم الحج . وقول ثالث : إن الخطاب من قوله :
أن لا تشرك مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - . وهذا قول أهل النظر ؛ لأن القرآن أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك . وهاهنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو
أن لا تشرك بي بالتاء ، وهذا مخاطبة لمشاهد ،
وإبراهيم - عليه السلام - غائب ، فالمعنى على هذا : وإذ بوأنا
لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى
أن إبراهيم كان يعبد الله وحده . وقرأ جمهور الناس ( بالحج ) بفتح الحاء . وقرأ ابن
أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها . وقيل : إن نداء
إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين . والله أعلم .
الثالثة : قوله تعالى :
يأتوك رجالا وعلى كل ضامر وعده
إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب ، وإنما قال ( يأتوك ) وإن كانوا يأتون
الكعبة لأن المنادي
إبراهيم ، فمن أتى
الكعبة حاجا فكأنما أتى
إبراهيم ؛ لأنه أجاب نداءه ، وفيه تشريف
إبراهيم .
ابن عطية :
[ ص: 37 ] ( رجالا ) جمع راجل مثل تاجر وتجار ، وصاحب وصحاب . وقيل : الرجال جمع رجل ، والرجل جمع راجل ؛ مثل تجار وتجر وتاجر ، وصحاب وصحب وصاحب . وقد يقال في الجمع : رجال ، بالتشديد ؛ مثل كافر وكفار . وقرأ
ابن أبي إسحاق وعكرمة ( رجالا ) بضم الراء وتخفيف الجيم ، وهو قليل في أبنية الجمع ، ورويت عن
مجاهد . وقرأ
مجاهد ( رجالى ) على وزن فعالى ؛ فهو مثل كسالى . قال
النحاس : في جمع راجل خمسة أوجه ، ورجال مثل ركاب ، وهو الذي روي عن
عكرمة ، ورجال مثل قيام ، ورجلة ، ورجل ، ورجالة . والذي روي عن
مجاهد رجالا غير معروف ، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى ، ولو نون لكان على فعال ، وفعال في الجمع قليل . وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي .
وعلى كل ضامر يأتين لأن معنى ( ضامر ) معنى ضوامر . قال
الفراء : ويجوز يأتي على اللفظ . والضامر : البعير المهزول الذي أتعبه السفر ؛ يقال : ضمر يضمر ضمورا ؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى
مكة . وذكر سبب الضمور فقال :
يأتين من كل فج عميق أي أثر فيها طول السفر . ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها ؛ كما قال :
والعاديات ضبحا في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله .
الرابعة : قال بعضهم : إنما قال ( رجالا ) لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث ؛ فقول ( رجالا ) من قولك : هذا رجل ؛ وهذا فيه بعد ؛ لقوله :
وعلى كل ضامر يعني الركبان ، فدخل فيه الرجال والنساء . ولما قال تعالى : ( رجالا ) وبدأ بهم دل ذلك على أن
حج الراجل أفضل من حج الراكب . قال
ابن عباس : ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا ، فإني سمعت الله - عز وجل - يقول :
يأتوك رجالا . وقال
ابن أبي نجيح : حج
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين . وقرأ أصحاب
ابن مسعود ( يأتون ) وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=12356ابن أبي عبلة والضحاك ، والضمير للناس .
الخامسة : لا خلاف في
جواز الركوب والمشي ، واختلفوا في الأفضل منهما ؛ فذهب
مالك ، nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل ، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب . وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس ، ولحديث
أبي سعيد قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500252حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة ، وقال : [ ص: 38 ] اربطوا أوساطكم بأزركم ومشى خلط الهرولة ؛ خرجه
ابن ماجه في سننه . ولا خلاف في أن الركوب عند
مالك في المناسك كلها أفضل ؛ للاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم .
السادسة : استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن
فرض الحج بالبحر ساقط . قال
مالك في الموازية : لا أسمع للبحر ذكرا ، وهذا تأنس ، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه ؛ وذلك أن
مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن ؛ ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان
مكة إما راجلا وإما على ضامر ؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول ؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي . فأما إذا اقترن به عدو وخوف ، أو هول شديد ، أو مرض يلحق شخصا ،
فمالك ، nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار ، وأنه ليس بسبيل يستطاع . قال
ابن عطية : وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما . ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار ؛ وهذا ضعيف .
قلت : وأضعف من ضعيف ، وقد مضى في ( البقرة ) بيانه . والفج : الطريق الواسعة ، والجمع فجاج . وقد مضى في ( الأنبياء ) . والعميق معناه البعيد . وقراءة الجماعة يأتين . وقرأ أصحاب عبد الله ( يأتون ) وهذا للركبان ويأتين للجمال ؛ كأنه قال : وعلى إبل ضامرة يأتين
من كل فج عميق أي بعيد ؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر ؛ ومنه : [ قول
nindex.php?page=showalam&ids=15876رؤبة بن العجاج ] : وقال آخر : [
قيس بن زهير العبسي ] :
وقائم الأعماق خاوي المخترق [ مشتبه الأعلام لماع الخفق ]
السابعة : واختلفوا في
الواصل إلى البيت ، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا ؟ فروى
أبو داود قال : سئل
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال : ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا
اليهود ، وقد حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم نكن نفعله . وروى
ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500253ترفع الأيدي في سبع مواطن : افتتاح الصلاة ، واستقبال البيت ، والصفا ، والمروة ، والموقفين ، والجمرتين ، . وإلى حديث
ابن عباس هذا ذهب
الثوري ، [ ص: 39 ] nindex.php?page=showalam&ids=16418وابن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق وضعفوا حديث
جابر ؛ لأن
مهاجرا المكي راويه مجهول . وكان
ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت . وعن
ابن عباس مثله .