قوله تعالى :
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم
فيه سبع مسائل :
الأولى : هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح ؛ أي زوجوا من لا زوج له منكم فإنه طريق التعفف ؛ والخطاب للأولياء . وقيل للأزواج . والصحيح الأول ؛ إذ لو أراد الأزواج لقال وانكحوا بغير همز ، وكانت الألف للوصل . وفي هذا دليل على أن المرأة ليس لها أن تنكح نفسها بغير ولي ؛ وهو قول أكثر العلماء . وقال
أبو حنيفة : إذا
زوجت الثيب أو البكر نفسها بغير ولي كفء لها جاز . وقد مضى هذا في ( البقرة ) مستوفى .
الثانية : اختلف العلماء في هذا الأمر على ثلاثة أقوال ؛ فقال علماؤنا : يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت ، ومن عدم صبره ، ومن قوته على الصبر وزوال خشية العنت عنه . وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم . وإن لم يخش شيئا وكانت الحال مطلقة فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : النكاح مباح . وقال
مالك ، nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة : هو مستحب .
[ ص: 222 ] تعلق
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بأنه قضاء لذة فكان مباحا كالأكل والشرب . وتعلق علماؤنا بالحديث الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500374من رغب عن سنتي فليس مني .
الثالثة : قوله تعالى :
الأيامى منكم أي الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء ؛ واحدهم أيم . قال
أبو عمرو : أيامى مقلوب أيايم . واتفق أهل اللغة على أن
الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها ، بكرا كانت أو ثيبا ؛ حكى ذلك
أبو عمرو ، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، وغيرهما . تقول العرب : تأيمت المرأة إذا أقامت لا تتزوج . وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=864151أنا وامرأة سفعاء الخدين تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة .
وقال الشاعر :
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم
ويقال : أيم بين الأيمة . وقد آمت هي ، وإمت أنا . قال الشاعر :
لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت
قال
أبو عبيد : يقال رجل أيم وامرأة أيم ؛ وأكثر ما يكون ذلك في النساء ، وهو كالمستعار في الرجال . وقال
أمية بن أبي الصلت :
لله در بني علي أيم منهم وناكح
وقال قوم : هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى :
والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين . وقد بيناه في أول السورة والحمد لله .
الرابعة : المقصود من
قوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الحرائر والأحرار ؛ ثم بين حكم المماليك فقال :
والصالحين من عبادكم وإمائكم . وقرأ
الحسن ( والصالحين من
[ ص: 223 ] عبيدكم ) ، وعبيد اسم للجمع . قال
الفراء : ويجوز ( وإماءكم ) بالنصب ، يرده على الصالحين يعني الذكور والإناث ؛ والصلاح الإيمان . وقيل : المعنى ينبغي أن تكون الرغبة في تزويج الإماء والعبيد إذا كانوا صالحين فيجوز تزويجهم ، ولكن لا ترغيب فيه ولا استحباب ؛ كما قال
فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا . ثم قد تجوز الكتابة وإن لم يعلم أن في العبد خيرا ، ولكن الخطاب ورد في الترغيب والاستحباب ، وإنما يستحب كتابة من فيه خير .
الخامسة : أكثر العلماء على أن
للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح ؛ وهو قول
مالك ، nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة ، وغيرهما . قال
مالك : ولا يجوز ذلك إذا كان ضررا . وروي نحوه عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، ثم قال : ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12354النخعي : كانوا يكرهون المماليك على النكاح ويغلقون عليهم الأبواب . تمسك أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي فقالوا : العبد مكلف فلا يجبر على النكاح ؛ لأن التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية ، وإنما تتعلق به المملوكية فيما كان حظا للسيد من ملك الرقبة والمنفعة ، بخلاف الأمة فإنه له حق المملوكية في بضعها ليستوفيه ؛ فأما بضع العبد فلا حق له فيه ، ولأجل ذلك لا تباح السيدة لعبدها . هذه عمدة
أهل خراسان والعراق ، وعمدتهم أيضا الطلاق ، فإنه يملكه العبد بتملك عقده . ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد ؛ ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه بإجماع . والنكاح وبابه إنما هو من المصالح ، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد ، هو يراها ويقيمها للعبد .
السادسة :
قوله تعالى : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله رجع الكلام إلى الأحرار ؛ أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة ؛
إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله واعتصاما من معاصيه . وقال
ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح ؛ وتلا هذه الآية . وقال
عمر - رضي الله عنه - : عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح ، وقد قال الله تعالى :
إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . وروي هذا المعنى عن
ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضا . ومن حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500375ثلاثة كلهم حق على الله عونه المجاهد في سبيل الله ، والناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء . أخرجه
ابن ماجه في سننه . فإن قيل : فقد نجد الناكح لا يستغني ؛
[ ص: 224 ] قلنا : لا يلزم أن يكون هذا على الدوام ، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد . وقد قيل : يغنيه ؛ أي يغني النفس . وفي الصحيح
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500376ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس . وقد قيل : ليس وعد لا يقع فيه خلف ، بل المعنى أن المال غاد ورائح ، فارجوا الغنى . وقيل : المعنى يغنهم الله من فضله إن شاء ؛ كقوله تعالى :
فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ، وقال تعالى :
يبسط الرزق لمن يشاء . وقيل : المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بالحلال ليتعففوا عن الزنا .
السابعة : هذه الآية دليل على
تزويج الفقير ، ولا يقول كيف أتزوج وليس لي مال ؛ فإن رزقه على الله . وقد زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد ، وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالإعسار ؛ لأنها دخلت عليه ؛ وإنما يكون ذلك إذا دخلت على اليسار فخرج معسرا ، أو طرأ الإعسار بعد ذلك لأن الجوع لا صبر عليه ؛ قاله علماؤنا . وقال
النقاش : هذه الآية حجة على من قال : إن
القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيرا لا يقدر على النفقة ؛ لأن الله تعالى قال : يغنهم الله ولم يقل يفرق . وهذا انتزاع ضعيف ، وليس هذه الآية حكما فيمن عجز عن النفقة ، وإنما هي وعد بالإغناء لمن تزوج فقيرا . فأما
من تزوج موسرا وأعسر بالنفقة فإنه يفرق بينهما ؛ قال الله تعالى :
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . ونفحات الله تعالى مأمولة في كل حال موعود بها .