قوله تعالى :
وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا .
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى :
خلفة قال
أبو عبيدة : الخلفة كل شيء بعد شيء . وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه . ويقال للمبطون : أصابته خلفة ; أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك . ومنه خلفة النبات ، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف . ومن هذا المعنى قول
زهير بن أبي سلمى :
[ ص: 64 ] بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
الرئم ولد الظبي وجمعه آرام ; يقول : إذا ذهب فوج جاء فوج . ومنه قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا :
ولها بالماطرون إذا أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة حولها الزيتون قد ينعا
قال
مجاهد :
خلفة من الخلاف ; هذا أبيض وهذا أسود ; والأول أقوى . وقيل : يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان . وقيل : هو من باب حذف المضاف ; أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة ، أي اختلاف .
لمن أراد أن يذكر أي يتذكر ، فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله ، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم . وقال
عمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس والحسن : معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل . وفي الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=864301ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة . وروى
مسلم عن
عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832185من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل .
الثانية : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول : إن الله تعالى خلق العبد حيا
[ ص: 65 ] عالما ، وبذلك كماله ، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة ; إذ الكمال للأول الخالق ، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل . ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا ، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة ، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية ، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم .
الثالثة : الأشياء لا تتفاضل بأنفسها ; فإن الجواهر والأعراض من حيث الوجود متماثلة ، وإنما يقع التفاضل بالصفات . وقد اختلف أي الوقتين أفضل ، الليل أو النهار . وفي الصوم غنية في الدلالة ، والله أعلم ; قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي .
قلت : والليل عظيم قدره ; أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بقيامه فقال :
ومن الليل فتهجد به نافلة لك ، وقال :
قم الليل على ما يأتي بيانه . ومدح المؤمنين على قيامه فقال :
تتجافى جنوبهم عن المضاجع وقال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=864303والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء وفيه ينزل الرب تبارك وتعالى حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
الرابعة : قرأ
حمزة وحده : ( يذكر ) بسكون الذال وضم الكاف . وهي قراءة
ابن وثاب وطلحة والنخعي . وفي مصحف
أبي ( يتذكر ) بزيادة تاء . وقرأ الباقون : يذكر بتشديد الكاف . ويذكر ويذكر بمعنى واحد . وقيل : معنى ( يذكر ) بالتخفيف أي يذكر ما نسيه في أحد الوقتين في الوقت الثاني ، أو ليذكر تنزيه الله وتسبيحه فيها .
أو أراد شكورا يقال : شكر يشكر شكرا وشكورا ، مثل كفر يكفر كفرا وكفورا . وهذا الشكور على أنه جعلهما قواما لمعاشهم . وكأنهم لما قالوا :
وما الرحمن قالوا : هو الذي يقدر على هذه الأشياء .